عملية إنقاذ مفاوضات حوض النيل أزمات «الفجر».. ولحظات الفشل
التنزانيون أصروا علي أن "ما لا يدرك كله يترك كله" لتوقيع الاتفاقية بدون مصر والسودان .. وردود مصر القانونية أقنعتهم بأنهم "هايبلوها ويشربوا ميتها"
بين لحظات وضع فيها الكثيرون أيديهم علي قلوبهم بعد أن تصوروا أن الاجتماع التفاوضي ''العاجل'' للمجلس الوزاري لدول حوض النيل وصل إلي طريق مسدود، واللحظات التي استعادوا فيها أنفاسهم مرة أخري.. كانت المبادرة المصرية هي كلمة السر التي أعادت المفاوضات إلي مسارها الطبيعي. «روزاليوسف» كشفت ما حدث في كواليس الأحداث التي شهدتها شرم الشيخ الثلاثاء الماضي.. ودارت داخل غرف مغلقة ضمت دول الحوض التسع لحسم خلافاتهم حول النقاط الثلاث. بينما كان هناك خشونة في التصريحات «التنزانية».. وتبعها انقلابا تزعمه الوزير التنزاني ..فكان رد الفعل علي ما قام به هو حدوث انقسام بين صفوف «دول المنابع» لأول مرة منذ اجتماع «كينشاسا» إذ كانوا قد اتفقوا في وقت سابق علي أن يكونوا علي قلب رجل واحد بما يمكنهم من إعادة توزيع كامل لحصص النيل، وإلغاء أي اتفاقيات قديمة تحدد حصص لدولتي المصب مصر والسودان. إلا أن اللحظات الأخيرة في المفاوضات كان أن حسمتها ورقة المبادرة المقدمة من الرئيس مبارك والتي اتفق عليها مع نظيره السوداني عمر البشير ..وتم طرحها في شكل رسائل لكل رؤساء دول منابع النيل . -- من أهم المشاهد التي تصدرت ساحة المحادثات في شرم الشيخ كان عندما رفعت دول المنابع القبعات لوفد خبراء القانون المصريين المنوطين بالتفاوض، بعدما تم إحباط سند قانوني «ضعيف» اعتمد علي مقولة أطلقها الوفد التنزاني يسانده وفود الكونغو وكينيا في «أن ما لا يدرك كله يترك كله» تمهيدا لتوقيع اتفاق فيما بينهم بدون مصر والسودان. وما كان من المفاوض المصري إلا أن قدم أسانيده المعتمدة علي القواعد والمبادئ الدولية التي أربكت «مفاوضي المنابع» في الإصرار علي شرعية إعلان مفوضية النيل بمفردهما في حالة رفض مصر والسودان. وجاء الرد ليؤكد للجميع أنه في حالة إعلان التوقيع فإنه غير ملزم ويخرج عن إطار شرعية المبادئ الدولية.. أي بمنطق «بلوها واشربوا ميتها»! وعندها سجل الوزير التنزاني - أشد المعارضين لاستمرار المفاوضات - إعجابه قائلا «حقا عندما تتحدث مصر يستمع الجميع».. وهو ما فتح بعدها الباب للتحدث من جديد، بعدما كان هناك خيارا واحدا من دول المنبع بفتح باب التوقيع علي الاتفاقية 14 مايو المقبل .. ولمدة عام واحد لإقرارها سواء بعضوية مصر والسودان أو بدونهما. أما المفاجأة الأخطر فكانت في مبادرة البنك الدولي، المنصفة لمصر والسودان، إذ قدم البنك دراسة تعتمد علي سيناريوهين: الأول: الاتفاق علي جميع البنود وتوقيع جميع الدول التسعة للاتفاقية الجديدة .. وهو السيناريو الإيجابي علي حد وصف الدراسة التي أعدها مكتب استشاري قانوني دولي ،حيث سيعمل هذا علي دعم مشروعات التنمية بحوض نهر النيل واستقطاب المزيد من المنح والمساعدات المالية لتنفيذ مشروعات تسهم في توليد الكهرباء وتوفير حصص مياه تكفي حاجة الجميع . -- كانت البداية بعشاء بدوي نظمه وزير السياحة زهير جرانة للوفود المشاركة عشية بدء الاجتماعات للتخفيف من حدة التوتر الذي كان يسيطر علي الاجتماعات .. إلا أن الوزير التنزاني غاب عن الحفل متعللا بأنه لا يسهر ويفضل النوم مبكرا . في حين بدت الوزيرة الأوغندية ماريا موتاجمبا الأكثر ودا خلال العشاء ..كان أن لعبت ماريا مع وزير الري المصري د. محمد نصر الدين علام دور «المضيفة» ..وتوليا معا مهمة توزيع قطع لحم الضأن المشوية علي باقي الوزراء الذين جلسوا معا علي الأرض إلي طاولة ..وتبادلوا الضحك بعدما قال لهم علام إنه لم يكن ليتنازل لأحد عن طاجن الفريك الذي توسط المائدة، لأنه يشبه ما كانت تصنعه له والدته وأنه سيكتفي بأن يضع في أطباقهم القليل منه للتأكيد علي مدي حبه لهم . وجلس علام أغلب الوقت ممسكا بيد نظيره السوداني كمال علي لالتقاط الصور التذكارية .. وصفق الجميع بحرارة للعروض البدوية المختلفة من رقصات وتنورة وعرض الجمال. وبدأت الأحاديث الليلية الجانبية للوزراء بسؤالهم الودود عن صحة الرئيس مبارك بعد نجاح العملية الجراحية الأخيرة متمنين له دوام الصحة والعافية .. بينما كانت لجنة التفاوض الممثل بها خبراء قانون من جميع الدول قد انتهت من إعداد تقريرها النهائي بعد تفاوض استمر يومين ورفعته إلي الوزراء عقب عودتهم من سهرة العشاء لدراسته قبل الاجتماع في صباح الثلاثاء . وعلمت «روزاليوسف» أن الوفد المصري ظل ساهرا مع وزير الري حتي الصباح لإعداد الردود القانونية التي تتناسب مع أي سيناريو تطرحه دول المنبع للتشكيك في أحقية الاحتفاظ بالحصص التاريخية لدولتي المنبع. -- استمرت مناقشات الوفود إلي ما يقرب من 20 ساعة. وقال الوزير التنزاني «مارك جيمس» إنه لا يتفق مع ما يقال عن إعلان المفوضية دون حسم خلافات الاتفاقية متابعا: لا نؤمن بفكرة إذا لم يكن لديك ما تريد فاختار من بين المتاح ..أريدكم أن تتخذوا القرار الآن .. لنأخذ الخطوة التالية.. وعلي مصر مسئولية الوصول لاتفاق.. فلديها تاريخ طويل وجهود غير عادية في هذا السياق.. ولتكن شرم الشيخ مدينة السلام هي مدخل دول حوض النيل لمرحلة التعاون الجديدة.. ولابد من الخروج بنتيجة الآن. وجاءت كلمة «أصفاوا دينجاموا» وزير الري الأثيوبي الأكثر مرونة وهدوء علي عكس ما اعتدنا عليه في جوالات التفاوض السابقة خاصة وأنها كانت صاحبة انقلاب اجتماع كينشاسا العام الماضي إذ دعت إلي توقيع الاتفاقية بدون دولتي المصب . وبدأ الوزير الأثيوبي بتوجيه الشكر لمصر وتهنئة المستشارين الفنيين الذي أعدوا تقريرهم النهائي في نهاية مهلة الستة أشهر مستطردا: لذا جاء الآن دور مجلس الوزراء لتحويل المبادرة في إطار هذا التعاون الذي نعد إطاره منذ أكثر من 10 أعوام إلي مفوضية، وحكومة إثيوبيا مقتنعة بالتعاون تحت مظلة هذه المفوضية. بينما قال مساعد الوزير الكيني: هذا اللقاء لابد أن يعزز الالتزام بما طرحته الاجتماعات السابقة ونريد تكثيف الجهود للوصول للمفوضية.. وحاول وزير البيئة والحماية الطبيعية بالكونغو «جوس بونونج» اللعب علي نفس وتيرة التصعيد التنزانية قائلا: التنمية والتعاون المتناغم هما مانريده ولذلك نحن هنا ويجب أن نصل للحلول الجذرية لإنجاز اتفاقيتنا الدولية لإدارة مياه النيل .. ومصر والسودان يعلمان أن الوصول لهذا الاتفاق سيعود بالنفع عليهما مثل باقي الدول، لذا حان الوقت للاتفاق . -- الاجتماع بدأ بطلب لوزير الري المصري بالوقوف دقيقة حداد تعاطفا مع الشعب الرواندي في الذكري السادسة عشرة للإبادة الجماعية التي حدثت عام 1994 .. والذي راح ضحيتهم الكثير من الضحايا. فرد عدد من الوزراء في المقابل بتعزية مصر في ضحايا السيول بسيناء وأسوان قبل شهرين .. وعقب وزير البيئة والأراضي الرواندي «استينيسلاس كماندي» مساندا الموقف المصري.. رغم أنه تردد انسحابه ضمن 4 وزراء من المفاوضات علي عكس الحقيقة قائلا : نناقش منذ 10 سنوات الوصول للخطوة التالية ..والمفوضية شيء مهم .. ويجب بالفعل إنجازها في أقصر وقت ممكن.. ونشكر الجهود التي قامت بها الرئاسة المصرية لدعم المجلس الوزاري وتسهيل المفاوضات النهائية. ومع دخول جولة المفاوضات الأولي كانت الأمور أكثر تعقيدا نظرا لإصرار الدول علي موقفها السابق الرافض لإضافة بند الأمن المائي للاتفاقية .. وإلحاق هذا البند الخاص بالحصص التاريخية بملحق للاتفاق إذا تم التوافق بشأنه أو فتح باب التوقيع لمدة عام.. واعتبارا من 14 مايو القادم ولمدة عام وإقراراه بمعرفة دول المنابع السبع دون مصر والسودان في حالة استمرار موقفهم الرافض. إلا أن المفاوض المصري نجح من خلال كارت المبادرة الرئاسية في إعادة الأمور إلي نصابها.. وللمرة الاولي منذ اجتماعات «كينشاسا» تتباين آراء السبع دول .. حتي أن الوزير الكونغولي غادر مكان الاجتماع ولحق به حلفاؤه الكيني والتنزاني فتدخل الوزير المصري علام لاعبا دور حمامة السلام بين دول المنبع وبعضها وتمكن من إعادة الجميع إلي مائدة التفاوض من جديد. واستغرق الوقت المستقطع ساعتين داخل غرفة مغلقة ملحقة بقاعة الاجتماعات.. ليعودوا بعد ذلك دون التمكن من رد مماثل . وانتهت المفاوضات في الساعة الرابعة والنصف من فجر اليوم التالي بالاتفاق علي انتظار الرد علي المبادرة الرئاسية «المصرية - السودانية» من خلال رؤساء الدول ..وأن الباب مازال مفتوحا للتفاوض خلال اجتماع أديس أبابا «يونيو» القادم .. بينما لم تعلن الدول صراحة التخلي عن موقفها من فتح باب التوقيع علي الاتفاقية 14 مايو القادم. وهو ما اعتبره المفاوض المصري تقدما كبيرا وانجازا في سير المفاوضات . -- د. محمد نصر الدين علام وزير الري أكد ل«روزاليوسف» أنه متفائل خيرا بخبرة المفاوض المصري الذي ترفع له القبعة وأن المرحلة القادمة ستشهد تكثيفا للجهود في التعاون بعدما تم زيادة ميزانية البند المخصص لدعم المشروعات الخدمية لدول الحوض بمقدار 150 مليون جنيه سنويا.. وباب التفاوض مازال مفتوحا ورفض أي تشكيك في العلاقات الأخوية مع دول المنابع لأن خلافات الرأي لا تعني وجود صراعات وحروب مضيفا: «لو حاربنا دول المنابع .. يبقي لنا مين نتحاور معه من أهلنا وحبايبنا».. وشدد علام علي أن مسألة نقل مياه النيل لبيعه لدولة أخري، مسألة تم حسمها منذ زمن باتفاق كل الدول .. ومفروغ منها.. واتفقنا جميعا علي أن مياه النيل لشعوبه فقط. وعلق د. محمد سامح عضو وفد المفاوضات المصري وأستاذ القانون الدولي بجامعة القاهرة قائلا: كان هناك تمسك وتعنت من جانب وفود الدول المشاركة في الاستمرار في التوقيع علي الاتفاق دون مصر والسودان.. ولم يكن يريد أي منهم الاستماع إلي أي حوار قانوني رغم أن ذلك يخالف القواعد الإجرائية التي تنص عليها مباديء إجراءات التفاوض التي اتفقت عليها كل الدول المشاركة بمبادرة حوض النيل.. اذ نصت علي أن يكون أي قرار بتوافق الآراء وعدم جواز وجود اعتراض من جانب دولة.. ولم ينص علي بديل لذلك. ونبه سامح إلي أن مصر لديها عدد من الاتفاقيات التي أبرمت علي مدار السنوات الماضية بشكل ثنائي مع دول منابع النيل.. ولاتزال سارية حتي الآن.. ومنها اتفاقية 1929 مع إثيوبيا. وبالتالي موقفنا يتمتع بالقوة القانونية الملزمة.. فأي اتفاقية منفردة لا يمكن الاحتجاج بها علي مصر والسودان. ولا يمكن أن تؤثر علي حقوقنا التاريخية في الحصص كما أن إعلان دول المنابع أي قرار منفرد ليس في مصلحة وحدة حوض النيل والذي لا يجوز تجزئته عند التعامل معه دوليا. ولذا لن تنجح دول المنابع في أي خطوة في مواجهة مصر والسودان .. وهذا لن يكون في مصلحتها كما أن هذا سيخلق حالة من التوتر تتنافي مع الجو العام والسياسة العامة التي لا تعمل إلا اعتمادا علي الأخوة ولف الذراع بين الأشقاء بحوض النيل.. خاصة أن المبادرة تنص صراحة علي أنه لايمكن إعلان المفوضية الجديدة دون مصر والسودان وموافقة الدول المانحة.. -- من جانبه السفير رضا بيبرس نائب مساعد وزير الخارجية لشئون دول حوض النيل أكد أن مصر لديها من الإمكانيات والوسائل التي تمكنها من الرد بقوة علي أي مواقف تؤثر علي حصتها التاريخية من مياه النيل.. وأن موقفنا المائي القانوني قوي.. ولن يتأثر في حالة التوقيع المنفرد ولدينا اتفاقات تم توقيعها منذ عام 1800 مع كل دول الحوض.. وهذه الاتفاقيات هي التي تحمي الحقوق التاريخية لمصر في مياه النيل.. كما أن اتفاقيتي 29 - 59 ملزمتين.. ومصر ليست في حاجة إلي التحكيم الدولي لأن الاتفاقيات الموقعة تضمن حقوقها.