منذ وقع حادث القطار الأخير أمام العياط والدنيا مقلوبة، لا أحد يعرف متى تنعدل كما لا يعرف أحد يقينا ما هى الصورة المعدولة وما هى الصورة المقلوبة، أنا شخصيا محتار فى وصف الدنيا قبل الحادث وبعده، هل كانت معدولة فلما وقع الحادث انقلبت وبدأ التحقيق فى أسبابه، أم أنها كانت مقلوبة بالإهمال والتراخى فلما وقع الحادث انعدلت وبدأ التحقيق فى أسبابه. قبل سنوات وقع حادث مماثل فى نفس المنطقة أطلقت عليه وسائل الإعلام كارثة العياط التى تعد الأكبر فى تاريخ سكك حديد فى مصر، وقعت فى فبراير 2002 عندما شب حريق فى قطار، مكتظ بالمسافرين لقضاء العيد فى بلادهم، أثناء سيره مما أسفر عن مقتل 361 شخصا معظمهم احترقوا بعد أن فشلوا فى الخروج من العربات المشتعلة. بقيت وسائل الإعلام تتابع الكارثة لعدة أسابيع وألقت السلطات القبض على من قيل أنهم مسئولون عن وقوع الحادث وكان معظمهم من صغار الموظفين، ثم تولت النيابة التحقيق معهم إلى أن تمت محاكمتهم أمام القضاء فبرأ ساحتهم مطالبا بتقديم المسئولين الحقيقيين عن مثل هذه الكوارث إلى المحاكمة. مضى بعض الوقت وقتها فى الجدل حول من هم المسئولون الحقيقيون، وهل المقصود المسئولية السياسية أم المسئولية الجنائية، وانتهى الأمر إلى نسيان الملف إلى حين إشعار آخر، بمعنى وقوع كارثة أخرى. الآن وقعت كارثة أخرى وبدأ السيناريو المكرر أو المقرر: صرف التعويضات لضحايا الحادث، إحالة المتسبب فى الحادث إلى التحقيق ثم إلى المحاكمة، غضب فى لجنة النقل بمجلس الشعب ولا مانع من أسئلة أو استجوابات برلمانية، ثم ينتهى الكلام فجأة كما بدأ فجأة، وتتوه المسألة إلى حين إشعار آخر، أى حتى تقع كارثة أخرى، فتأخذنا الدهشة من هول المفاجأة وكأنها لم تمر علينا من قبل. هذه المرة حدث تقدم فى الخيال المبدع الذى اعتاد التماس الأعذار والمبررات للتخلص من المسئولية العامة وحصرها فى خطأ بشرى من أحد العاملين مات فى الحادث حتى تنتهى القضية بدرى بدرى ويعود الحال إلى ما كان عليه من قبل مقلوبا أو منعدلاً، الأمر يعود إلى كل واحد ومفهوميته. قالت الصحف إن تحقيقات النيابة المبدئية كشفت عن أن عامل برج المراقبة فى مكان الحادث انصرف قبل الموعد المحدد لانتهاء فترة عمله، وترك البرج خاليا قبل حضور العامل المناوب معه، وركب القطار الأمامى رقم 152 للذهاب لبلدته، وتم العثور على جثته ضمن جثث المتوفين بمشرحة زينهم وأمرت النيابة بالتصريح بدفنه وتسليم جثته لذويه. طبعا نحن لا نصادر على نتائج التحقيقات ولكن ما نحذر منه هو محاولات البعض للتمويه على المتسبب الحقيقى فى الحادث بتعليق الاتهام على شخص فقد فرصة الدفاع عن نفسه لوفاته فى الحادث، أو اتهام جاموسة بأنها وقفت فى طريق القطار الأمامى فدهسها وتوقف عندها حتى جاء قطار من خلفه فصدمه وهو واقف يتأمل الجاموسة المدهوسة. زمان كان الناس يشعلون نارا لتنبيه سائق القطار إلى أن هناك شيئا ما على السكة يتطلب منه التوقف مثل انهيار جسر أو نزع السكة بفعل فاعل من البشر أو الطبيعة، الآن لدينا اختراع اسمه الاتصالات الحديثة التى يستخدمها البعض فى التواصل أثناء شراء الخضار من السوق، الاختراع اسمه الموبايل ذلك لمن لا يعلم بوجوده، فكيف إذن لم يمكن تنبيه القطار الخلفى إلى وجود قطار معطل أمامه على نفس السكة؟ إن الأعطال واردة ولا يمكن القول بغير ذلك، ولكن الوسائل الحديثة فى مراقبة حركة القطارات تقلل من الآثار التى تترتب على الأعطال، كذلك الحوادث تقع فى أكثر البلاد تقدما ولكن لأسباب يكون تجنبها شديد الصعوبة وليس لأسباب واهية ومكررة. ذات مرة توقف بى قطار فائق السرعة على السكة بين مدينتين ألمانيتين فى غير محطة مخصصة لوقوفه، بعد دقائق معدودات أعلن المذيع الداخلى أن سبب التوقف اصطدام القطار بغزالة شاردة ظهرت فجأة على سكة القطار وأن السلطات المحلية تجرى التحقيق وتقوم برفع آثار الحادث، مر نصف ساعة تقريبا قبل أن يعلن المذيع الداخلى أن الإجراءات انتهت وأن القطار سيعاود رحلته بعد ثلاث دقائق، وبالفعل تحرك القطار إلى وجهته النهائية دون أن يصطدم به قطار آخر فائق السرعة من الخلف. حدث ذلك قبل عشرين عاما تقريبا مما يعنى أن وسائل السيطرة على القطارات ليست اختراعا حديثا، بل المؤكد أنها أصبحت الآن أكثر حداثة، ولا يوجد فى هذا النوع من التكنولوجيا ما يصلح لنا ومالا يناسبنا، لكى نختار منه مثلما نفعل حينما نتحدث عن المتغيرات الثقافية، ليس مطلوبا أن تخترع العجلة من جديد لتحقيق الأمن والسلامة لركاب القطارات وتجنب حوادث تقع لأسباب تافهة نتيجة الإهمال وركوب كومة ثقيلة من كبار المسئولين على أكتاف عامل بسيط هنا أو هناك لا يعرفه أحد إلا حينما تقع الكارثة ولا يذكره أحد حين توزيع الغنائم والمكافآت والحوافز وخلافه. هل من العدل أو المقبول أن ندفع الملايين لبيوت الخبرة الأجنبية تضع خططا لتطوير مرفق حيوى مثل السكك الحديدية ثم لا ننفذ منها إلا ما يروق البعض ويأتى على هواه؟! أرجو ألا نضيع مغزى الحادث ودماء ضحاياه بالتركيز على مفردات الحادث دون النظر إلى دلالته العامة، الأمر لا يتعلق بالسكك الحديدية وحدها وإنما بأسلوب إدارة المرافق العامة وتعريف ما هو صحيح وما هو خطأ، وربط القصور فى الأداء بالإمكانيات المادية فنقبل نصف كل شىء، بل النصف الأسوأ منه حتى لا نضطر إلى مواجهة الحقيقة ونعيد النظر فى سياسة شىء أفضل من لا شىء.