يأخذنا شيخ القضاة المستشار محمود الخضيرى نائب رئيس محكمة النقض إلى متاهات التباس حقيقى باستقالته المفاجئة أو التى كان ينويها منذ بضعة شهور من منصبه ! نفيه ما تردد بشأن انتمائه لجماعة الإخوان، مؤكدا أنه ليست لديه نية مطلقا للانتماء لأى حزب أو جماعة فى مصر حتى ينتهى به العمر، يقف على رأس هذا الالتباس. من يضمن أن يغرى بالرجل أو تغريه نفسه وكلّ الشواهد تقول أنّ الاستقالة التى رفعت فى سطرين، قد بيّت لها السيّد المستشار أن تحدث انفجارا غير عظيم ؟ نحتار ماذا نصدّق ؟ هل حقّا ألمّ التعب به وضاق بجهد العمل وأنّ يده أصبحت ترتعش بالقلم، أم أنّه يمهّد لفترة مقبلة تشهد اندماجه أكثر فى مجال العمل العام؟! مشيرا إلى أنه لن يزعج زملاءه من القضاة بعد الآن لأنه أصبح لا يمثل إلا نفسه وليس محسوبا عليهم، بما يكشف عن ضيق القضاة بمن يصرفهم عن أداء رسالتهم ليدمجهم فى التحزّبات والضجيج الإعلامى والجماهيرى. يعود إلينا السؤال ملحّا حول مايتردّد عن علاقته بجماعة الإخوان ليبعث التخمينات حول الاستقالة - والمستشار لم يبق له سوى تسعة شهور فقط على تقاعده. عموما، عزّ على الرجل الذى أمضى 64 عاما فى خدمة العدالة منها عشرون عاما بمحكمة النقض صنعت له مهابة وجلالا ومواقف أن يترك ناسه ومجتمعه فى سلام ! وبسطرين رفعهما إلى "ممدوح مرعى" وزير العدل: أتقدم لكم باستقالتى من عملى فى محكمة النقض اعتبارا من (1/01 / 9002).. مع الشكر، توقيع القاضى محمود رضا عبدالعزيز الخضيرى، انهالت حمم الكتابة والتحليلات وطيّرت قناة الجزيرة إعلاميّا إلى القاهرة، ينهض بمشاكل القضاء المصرى، ويدسّ أنفه فى صميم شئوننا الداخليّة بعيدا عن بروتوكولات التقرير الإخبارى وحريّة الإعلام ! يتبادل المستشار والإعلامى القفشات والضحكات حول الشعب المصرى "النائم فى العسل نوم" وأحوال القضاء المصرى ومرتّبات القضاة المصريين وإعاراتهم وانتداباتهم واتّهام القضاة باللهث وراء المناصب التنفيذيّة، ومعاش نائب رئيس محكمة النقض! وما لايمكن أن يحتمل أن يطلب مذيع الجزيرة ممّن كان يشغل المنصب الرفيع أن يجيب باختصار (قل لنا فى: واحد.. اثنين.. ثلاثة)، وينال إغراء وشهوة الشهرة الإعلاميّة أوّل ما ينال مكانة الخضيرى نفسه، والذى أعطاه القانون الحقّ فى استدعاء رئيس الجمهوريّة كما جاء على لسانه. نسمح لقضايا إصلاح القضاء أن تُمسّ مهابتها حين تكون محلّ استغلال ومعارك هامشيّة وفرقعات إعلاميّة، وقد نختلف أو نتّفق حول قضايا الإصلاح السياسى والاقتصادى وأحوال القضاء، وهذا الاختلاف موجود بالفعل وسط القضاة أنفسهم. والمخلص هو من يهيّئ المناخ المناسب لكى يختبر كلّ فريق أىّ الاقتناعات هى الصادقة حقّا؟ بديلا عن ذلك نملأ الجوّ بالضجيج، نفسد كلّ شىء سليم وصحيح بانتفاخ ذواتنا واضطرابها، أو بالوقوع فرائس سهلة لأهداف وغايات الجهات الطامعة. فيتصوّر بعضنا أنّه قد أصبح "ماردا" سيخرج من قمقم تسعة شهور باقية له على الإحالة على التقاعد ليطلق طاقته الجبّارة ليحقّق استقلال القضاء! فلا نرى إلاّ يأس الخضيرى وحزنه وإحساسه بالهزيمة، وهذا مانطقت به كلماته، وما دفع به إلى المغامرة يصنع التعسكر والانقسام، ويفقد القضاء الشامخ الذى طالما اعتزّ به المصريّون وتحصّنوا، يفقد الصفات الحميدة والعتيدة من الحكمة والحلم والتواضع والصبر! ويبدأ التدمير التبادلى يحلّ فى صفوف القضاة قبل المجتمع. يهاجم الخضيرى وزير العدل متّهما إيّاه بأنّه فى خدمة الكرسى، وتترى ردود الأفعال على غير ما اشتهاه المستشار الخضيرى نفسه، يغضب المستشار اسماعيل البسيونى والذى فاز فى انتخابات رئيس نادى القضاة وانتزع المنصب من الخضيرى، مقلّلا من قيمة الاستقالة وواصفا الرغبة فى تحويلها إلى ضجّة إعلاميّة بأنّها غير مبرّرة، فالخضيرى كان "خارج-خارج" بشكل طبيعى فى يونيو من العام القادم! والخضيرى خير من يعلم أنّ زملاء غير قليلين من المستشارين يرون أنّ صرخة احتجاجه إنّما نالت من سمعة مهنة القضاء التى طالما استدفأ المصريّون فى حضنها قبل أن تنال من ادّعاءات التدخّل فى شئون القضاء ! هذا اتّجاه تدهورى لا عقلى انتشر فى السنوات الأخيرة، أوجدته عشرات السنين من الحكم الفردى والديكتاتورى، وغياب المؤسّسات، وحالات الحروب تخلق استبدادات متحكّمة، وبدا فقدان الصبر واضحا، وتخبّطت خطواتنا على طريق الإصلاح، وكلّ من عجز عن تحقيق التصحيح فى المكان أو حتّى الحزب الذى ينتمى إليه، استسهل الخروج عليه وإلى حدّ الانقسام، وشاعت حماقة التقرّب للجماهير وركوب ظروفها الصعبة، وكلّ من سجّل له بضعة مواقف تنسجم مع أهواء النّاس، خيّل لنا أنّه يصلح لقيادة وتطوير الدولة الدستوريّة ! وبدت هوائية أفئدتنا واضحة، وظهرت على النتّ ترشيحات عمرو موسى والبرادعى والمستشار البسطويسى لرئاسة الجمهوريّة المقبلة، نقحم على الرجال أدواراً! هذه الطريقة يجب ألا نقبلها أكثر من ذلك، ليس فى هذا الزمان من هو أشجع من الآخر لأنّه يهاجم الوزراء والنظام، أو يعلمنا بتدخلات سافرة من السلطة التنفيذية فى أعمال السلطة القضائية ! وبرغم الانسداد الذى يضعه المستشار البسطويسى فى نهاية النفق يقول أنّ النظام فى مصر مصرّ على الفساد ولا أمل إلاّ بتغييره، فهو غير قادر على أن يصادر رغبتنا المشروعة فى تأمّل هذا الجوّ، وهذه المظاهرات والاعتصامات وكلّ يوم حركة جديدة تنشأ وآخرها حركة "مصريّون لمنع انتخابات مزوّرة" التى أعلن المستشار الخضيرى أنّه سيعطيها مابقى لديه من طاقة ! ولعلّنا ندرك أنّه اتّجاه منافق لموضوع الديموقراطيّة أن نقحم القضاء فى موضوعات قضاياها الجماهيريّة مع الدولة ومنها الإشراف على الانتخابات.. لقد أسىء إلى قضائنا منذ ابتداعنا لهذه البدعة، وضرب شيخ القضاة عبد الرازق السنهورى باشا فى مجلس الدولة فى أعقاب قيام حركة يوليو، وتعرّفنا على مذابح القضاة وترزيّة القوانين أيضا! يقول المستشار الخضيرى نفسه فى أحد أحاديثه الإعلاميّة (القضاء بطبيعته عمل يتم فى صمت، والقاضى بحكم طبيعة عمله لا يتحدث كثيرا، وما يقوله من أراء وأحكام يقولها على الورق، أحكام يصدرها لإحقاق الحق وصون الحريات وهذه هى طبيعة عمل القاضى، ولذلك نلاحظ أنه على المنصة قليلا ما نرى قاضيا يتحدث لأنه يستمع، إلى المدعين والمدعى عليهم، لكنه لا يعلق ولا يتحدث لأن تعليقه ممكن يكون سببا فى إظهار رأيه فى القضية، وهذا أمر محظور على القاضى، ويجعله غير صالح للحكم فى هذه القضية) وعلى الآثار الفرعونيّة تظهر رسوم القضاة المصرييّن مطرقين وعيونهم إلى أسفل تتجه وتفكّر فى حقّ المتقاضين، وبلا أيدٍ، تتقدّم لطلب من أحد أو يلويها أحد، وعموما فمهما تفانى جهابذة تمنيّات انفصال واستقلال السلطات فقد أثبت النضال المصرى أنّ أقصى ما يمكن التطلّع إليه حاليّا هو إنقاذ وإبعاد المصريّين عن "جحيم" المواقف العنتريّة.