انتهت انتخابات المرحلة الثانية من الانتخابات ولم تكن ثمة مفاجآت كبيرة، احتل حزب الحرية والعدالة المرتبة الأولي، وجاء السلفيون في المرتبة الثانية، واحتلت الكتلة المصرية المرتبة الثالثة، وجاء الوفد في ذيل القائمة. والحقيقة أنه لا في المرحلة الأولي كانت هناك مفاجآت، ولا في المرحلة الثانية، ولا المرحلة الثالثة أيضا ستحمل مفاجآت، حيث ينتظر أن تتشابه مع نتائج المرحلتين الأولي والثانية. كان الجميع يعرفون أن الإخوان سيشكلون الأغلبية إذا ما حدث تغيير سياسي وأجريت انتخابات حرة، وبالنسبة للسلفيين الذين شكل وجودهم مفاجأة للكثيرين لم يكن في الأمر مفاجأة، علي الأقل بالنسبة للمتابعين، وقد قلنا هذا الكلام علي صفحات «روزاليوسف» منذ خمس سنوات وأكثر في سلسلة مقالات ودراسات تحت عنوان السلفيين والسياسة وكانت خلاصتها أن السلفيين في مصر سيتحولون إلي قوة سياسية ضاربة إذا ما حدث تغيير في المشهد السياسي، وهو ما حدث بالفعل وحرفيا، والحقيقة أن السلفيين لم يظهروا فجأة، بل هم تيار يضرب بجذوره في المجتمع المصري منذ عشرينيات القرن الماضي، وقد شهد انتعاشة مادية وسياسية منذ بداية السبعينيات حولته من تيار فكري إلي تيار حركي وتنظيمي ودعوي يحظي بإمكانات مادية غير مسبوقة. والحقيقة أيضا أن السلفيين يحصدون الآن ثمار ما يقرب من أربعين عاما من العمل بين الناس في المساجد والمستشفيات والجمعيات الخيرية والبيوت ثم التواصل معهم عبر شرائط الكاسيت والسي دي ثم القنوات الفضائية، وهم قبل هذا كله يحصدون ثمار تلك السنوات الهائلة من الفراغ السياسي والتي كانت الدولة تكتفي فيها بتزوير الانتخابات وخوض المعترك السياسي من خلال الحزب الرسمي الذي يضم مرشحين هم ممثلون للعصبيات والقبائل بالإضافة لكبار الموظفين وبعض العناصر السياسية من هنا ومن هناك، وكان من الطبيعي بعد انهيار هذا الحزب الذي حمل أسماء متعددة عبر العصور كان آخرها مسمي الحزب الوطني الديمقراطي الذي ارتبط في ذاكرة المصريين بكل ماهو سييء وردئ في الحياة السياسية. من الطبيعي إذن أن تشهد الساحة السياسية بعد الثورة كل هذا الفراغ السياسي ما عدا محاولات متعجلة ولاهثة ومحمومة ومشوبة بالطائفية من الملياردير القبطي نجيب ساويرس لإنشاء حزب سياسي يتصدي لتغول الإخوان والسلفيين علي الحياة السياسية المصرية، وهي تجربة حققت نجاحا نسبيا في فترة قصيرة لكنها ستبقي معيبة بنفوذ المال وبالطائفية، وأنا شخصيا أعرف العشرات بل المئات من الأشخاص المحترمين الذين كانوا يودون الانضمام للكتلة المصرية لولا خشيتهم من اتهامهم بأنهم دخلوا طمعا في أموال الملياردير نجيب ساويرس، أو خشيتهم من أن يتهموا بأنهم انضموا لحزب أو حلف قبطي في مواجهة حزب أو حلف يصف نفسه بأنه إسلامي. والحقيقة أنه ولأسباب كثيرة ومتعددة ويطول شرحها فإن الليبرالية لاتصلح شعارا لمواجهة تغول الإخوان والسلفيين علي الساحة السياسية في هذه المرحلة، فضلا عن أن المصطلح أصبح غامضا وفضفاضا وحمال أوجه، فأنت لاتعرف هل المقصود به هو الليبرالية الاجتماعية، أم الليبرالية الاقتصادية أم الليبرالية الفكرية؟ والليبراليون يدفعون الآن ثمن سنوات طويلة قضوها في المكاتب المكيفة كان بعضهم فيها يجلس علي حجر النظام السياسي دون أن يملك القدرة علي النزول إلي الشارع ولا علي قول الحقيقة ولا علي التواصل مع الجماهير العريضة التي مازالت حتي الآن لاتعرف معني كلمة ليبرالية. الليبرالية إذن ليست هي الحل في مواجهة شعار الإسلام هو الحل، ولكن الحل هو الدعوة لتأسيس حزب وسطي كبير يضم أصحاب المصالح الحقيقية في بقاء مصر دولة وسطية معتدلة لاتجنح يمينا ولا يسارا ولا تتقدم للخلف ولا تنزع نحو طائفية بغيضة لتقاوم طائفية من نوع آخر، هذا الحزب الوسطي الجديد. يجب أن يضم أصحاب المصالح الحقيقية في البلاد من رءوس العائلات والقادة المحليين ورجال الأعمال والقيادات العمالية وأساتذة الجامعات ورؤساء المصالح الحكومية وجميع من له مصلحة في الحفاظ علي وسطية الدولة المصرية، المطلوب وبمنتهي الصراحة حزب يتشابه في تركيبته مع الحزب الذي حمل أسماء متعددة كان آخرها مسمي الحزب الوطني، لكن بالتأكيد ليس مطلوبا أن يحمل هذا الحزب فساد وانتهازية وعفونة وحقارة الحزب الوطني، وليس مطلوبا أيضا أن يضم أيا من الذين شاركوا في الحزب الوطني مهما كانت درجة بعده عن الفساد، المطلوب أن يضم أسماء جديدة. وواعدة من الأجيال التي أفرزتها الثورة وأن تتوحد فيه الأحزاب التي ظهرت بعد الثورة والتي لافارق يذكر بينها سوي أسمائها، إذ لا أحد يعرف الفارق بين حزب العدل وحزب الوعي المصري، أو الفارق بين الوسط ذي الجذور الإخوانية والتيار المصري الذي يضم الشبان الذين تمردوا علي الإخوان، فضلا عن أنه لا أحد يدرك الفارق بين حزب مثل الجبهة الديمقراطية وحزب مثل المصريين الأحرار. هذا الحزب الذي يمكن تسميته بحزب الدولة المصرية كان يمكن أن يقود الدعوة لتأسيسه منذ شهور طويلة المجلس العسكري، لكنه بدلا من هذا انشغل بالتربيط وعقد الصفقات مع الإخوان المسلمين والسلفيين لسبب لا يعلمه إلا الله وذوو العزم من الرسل! وكانت النتيجة كما نري حاليا وكما سنري مستقبلا. هذه دعوة يمكن أن تواجه باعتراضات وسفسطات لكنها تبدو وكأنها الحل الوحيد لمواجهة حالة الفراغ السياسي الطاغي التي يشهدها الشارع المصري والتي أدت لمثل هذا التغول الطاغي للسلفيين والإخوان، ولا يجب أن يقال إننا لا نريد إعادة إنتاج الحزب الوطني مرة أخري لأن ما حدث بالفعل وما أفرزته الانتخابات الحالية هو أننا بصدد حزب وطني إسلامي جديد هو حزب الحرية والعدالة الذي لم ينتظر قادته انتهاء الانتخابات بل سارعوا ليتجبروا علي وسائل الإعلام وأعدوا قائمة بمجموعة برامج وقنوات فضائية أصدر قادة الحزب فرمانا بعدم التعامل معها، وهو نفس ما حدث مع الصحف والجرائد القومية إذ أطلق أحد قادة الحزب تصريحا يهدد فيه الصحف القومية بالعقاب بعد انتهاء الانتخابات لأنها تنتقد الإخوان المسلمين، رغم أن بعض هذ الصحف منذ الثورة يبذل مجهودا مضاعفا في نفاق الإخوان المسلمين بأكثر مما كانت تنافق الحزب الوطني. الحل إذن في الدعوة لحزب وسطي جامع شامل يضم المصريين جميعا ممن لهم مصلحة في التصدي للإخوان المسلمين دون شبهة طائفية، ودون ادعاء ليبرالي، ودون تخوين من طرف للآخر، ودون تركيز علي الخلافات الصغيرة والجزئية، ودون إغراق في الماضي، وتركيز علي الجزئيات. هذا الحزب ربما يكون هو طوق النجاة الوحيد للمصريين بغض النظر عمن يدعو له ومن يكون صاحب شارة البداية. ويبقي بعد ذلك دعوة أطلقها رغم أنني أعرف عواقبها، وهي أنه كما أننا نري وفي مواقف كثيرة أن الإخوان والسلفيين (إيد واحدة) رغم ما بينهما من خلافات وصلت إلي حد التكفير في أحيان كثيرة، فلماذا لايكون التحرير والعباسية إيد واحدة في مواجهة السلفيين والإخوان رغم الاحتفاظ بما بينهما من خلافات واختلافات كثيرة وكبيرة وأنا شخصيا أفضل الوقوف في التحرير لكنني لا أري أن من في العباسية خائنون أو مأجورون في معظمهم، وكلا الفريقين في التحرير والعباسية بينهما اختلافات كثيرة لكن يجمع بينهما أنهما من أنصار الدولة المدنية ومن أعداء الدولة الدينية، هذه دعوة قد تبدو صادمة لكنها مع قليل من الخيال والمرونة وتفضيل المصلحة العليا قد تبدو طوق النجاة الوحيد.