«لماذا يكون الثمن غالياً بهذا الشكل ؟». يقولها «دانيال» .. العامل البوليفي الفقير، الذي قاد ثورة من الفقراء ضد جشع شركات المياه هناك، التي لا هم لها سوي فرض الضرائب أو بالأصح «إتاوات».. نجحت ثورة «دانيال»، لكن الثمن هو إصابة ابنته بجرح خطير . يقولها «دانيال».. في وجه المُنتج الأسباني البخيل «كوستا»، الذي جاء مع صديقه المُخرج الأسباني المُتحمس «سباستيان»، فقط ليُصوروا فيلماً عن قدوم «كريستوفر كولومبس» للعالم الجديد «أمريكا»، ومُعاملته للهنود الحُمر علي أنهم مُجرد عبيد، بلا روح أو عقل، ليُواجهه الكاهن «لا كاساس»، فقط ليستبدل بعدها الأفارقة مكان الهنود الحُمر كعبيد للمُكتشف العظيم!. يقولها «دانيال».. أمام الظُلم، الفقر، الجشع، الاستعباد، التعالي، الدونية .. ومع أن الصرخة بوليفية، وفي فيلم أسباني بعنوان «حتي المطر» أوTambién la lluvia ، إلا أن الصرخة يتردد صداها في كافة الدول، حتي في مصر، فالرموز تتغير، سواء كان صاحب الصرخة عاملاً بوليفيًا فقيرًا، أو مواطنًا بسيطًا كادحًا، وسواء كان العدو هو شركات المياه أو حاكم، فالمعني واحد. أكثر من 20 فيلمًا من 8 دول أوروبية هي «ألمانيا»، «فرنسا»، «أسبانيا»، «إنجلترا»، «هولندا»، «دنمارك»، «سلوفينيا»، «صربيا»، إلي جانب مصر، تم عرضها في الدورة الرابعة لبانوراما الفيلم الأوروبي هذا العام 2011 والذي أُقيمت فعالياتها من 23 إلي 29 نوفمبر الماضي، وهي البانوراما التي قامت بتأسيسها وتقوم بإطلاقها سنويا شركة أفلام مصر العالمية «يوسف شاهين»، بالتعاون مع المركز القومي للسينما والمعهد الفرنسي والمجلس الثقافي البريطاني وعدد من السفارات الأوروبية. البانوراما بدأت عروضها بفيلم حفل الافتتاح الذي عرض الفيلم الفرنسي «إيد واحدة» أو Les Mains En ، Lair ،وكانت معظم العروض تفوح منها رائحة الثورة فلقبت ب«بانوراما الثورة»، الأفلام أسترجعت وحللت الثورات القديمة، التي ميزة معظم الأفلام التسجيلية المختارة للعرض والتي كانت تدور حول فكرة «التغيير»، وهو المعني الذي يغزل شكل أي ثورة في أي بلد في العالم. فالفيلم الأسباني «حتي المطر» أو También la lluvia مِن تلك الأفلام التي لا يختلف أحد عليها لتناوله للثورة بشكل مُبتكر، ففي حين نُشاهد المُخرج «سباستيان» مع المُنتج «كوستا» يعرضان قدوم «كريستوفر كولومبس» للعالم الجديد «أمريكا» مِن خلال فيلم يُصورانه في بوليفيا لقُرب طبيعة المكان والسُكان البوليفيين الفُقراء مِن الهنود الحُمر، خاصةً «دانيال»، الذي يختاره «سباستيان» ليكون زعيم الهنود الحُمر، وبتطبيق نظرية «التاريخ يُعيد نفسه»، نجد أن ما فعله «كريستوفر كولومبس» مِن مجازر في حق الهنود الحُمر، لا يختلف كثيراً عما تفعله شركات المياه الأجنبية الآن في فقراء بوليفيا مِن فرض ضرائب تصل إلي 300 %! وفي حين نتصور أن «سباستيان» سيتعاطف مع «دانيال» علي عكس «كوستا»، نجد أن العكس هو الصحيح، ففي حين أن «سباستيان» هو المُفترض به أن يُدافع عن الفقراء والقيم المُطلقة، باعتباره مُخرجًا مُتحمسًا، لا يرضي بأي شئ بسيط لتنفيذ فيلمه علي أكمل ما يكون، وفي حين أن «كوستا» المُنتج هو شخص بخيل، لا يهتم سوي بنفسه وبفيلم «سباستيان»، لا يعنيه الفقراء، لدرجة أنه يرفض تصوير ثورتهم ضد شركات المياه، بحجة أنه لا توجد ميزانية، لكن الوضع يُصبح معكوساً، حينما نُفاجأ بأن «كوستا» يُحاول إنقاذ ابنة «دانيال» من خطر الموت، لدرجة أن يقود سيارته علي طُرق القتال والصراع بين الجيش والشعب الفقير، في حين «سباستيان» يهرب بحياته وحياة مُمثليه لمكانٍ آخر، لاستكمال فيلمه، غير عابئ سوي بإنجاز مُهمته قبل أن يتخلي عنه المُنتجون الأمريكيون، وهو المعني الذي لا يختلف كثيراً حول موقف «لا كاساس» مِن الهنود الحُمر، ففي حين يطلب من «كريستوفر كولومبس» أن يعفوا عنهم، إلا أنه يستبدلهم في أحد آرائه بالأفارقة، مُستخدماً نفس المُصطلحات العُنصرية التي رفضها مِن قبل! يأتي تناول معني الثورة بشكل مُباشر أكثر في فيلمين تسجيليين، المُدهش أن الاثنين عن ثورة الإيرانيين عام 2009 بعد واقعة تزوير الانتخابات الرئاسية لصالح «محمود أحمدي نجاد» ليكون رئيساً لفترة جديدة، بدلاً مِن «مير حسين موسوي». في حين يأتي الفيلم الفرنسي «يوميات إيرانية» أو Chroniques d un Iran interdit في تناوله لهذه الأحداث بالشكل التسجيلي التقليدي، مُستعرضاً العديد من الأحداث والمجازر التي اقترفها العسكر الإيراني في حق شعبه، مازجاً لقطات تسجيلية للعديد مِن الشُهداء مثل «سُهراب عربي» و''ندا» - وهي الأشهر مِن بين الشُهداء، بالإضافة إلي الشهادات الحية للذين تعرضوا للتعذيب وما زالوا أحياء مثل «إبراهيم مهيتاري». أما الفيلم الثاني فهو الألماني «الموجة الخضراء» أو The Green Wave الذي يدور في فلك الثورة الإيرانية، لكن بشكل أكثر فنية واحترافية، حيث يغلب عليه الطابعان التسجيلي والدرامي الAnimation وهو ما يُذكرنا بفيلم المُخرجة الإيرانية «مارجان سترابي» عام 2007 وعُرضَ في مهرجان «كان» وحمل عنوان «بلاد الفُرس» أوPersepolis . «الموجة الخضراء» يعرض مِن خلال تدوينات لشخصيتين، نتتبع خيط كُل مِنهما، ما يحدث داخل إيران، حيث نري الأعلام والأوشحة الخضراء المُساندة ل«موسوي» التي كانت أقرب للموجة الخضراء التي سُرعان ما اصطدمت بصخور الواقع وحُكم القوة والعسكر، ومِن خلال التدوينات، وطرق العرض التي هي أشبه برسائل «تويتر»، بجانب الطابع التسجيلي، نُتابع ما حدث، عالقاً في أذِهاننا صور ما حدث هناك لأنها لا تختلف كثيراً عما يحدث هنا. في حين يأتي تناول معني الثورة في أفلام أخري من خلال تحليل الثورات القديمة، ففي الفيلم البرتغالي «بلد آخر» أو Outro Pais عن ثورة القُرنفل الأحمر في البرتغال عام ,1974 يقوم مُخرجه «سيرجيو تريفو» باستعراض شهادات مُراسلين ومصورين وسينمائيين حتي الفلاحين بعد مرور أكثر من 20 عاماً علي هذه الثورة، وما إذا كانت أحلام التغيير قد حدثت، إلا أن ضعف الفيلم أخرج البعض غير راضٍ عن مستواه، بل وبرؤية مشوشة حول التغيير الذي تم هناك . هذا علي العكس من الفيلم الألماني «مشاهد من الثورة الرومانية» أو Videogramme Einer Revolution الذي يُحلل الثورة الرومانية في عام 1989 ضد حُكم الرئيس «نيكولا تشاوتشيسكو»، وذلك مِن خلال استعراض اللقطات التليفزيونية الرسمية أو غير الرسمية التي جاءت عقب أحداث الثورة. الفيلم الإنجليزي «مُشاغبون» أو Neds لا يقبل بفكرة التصالح أو حتي التغيير، مؤكداً علي أنه مهما يكُن ما بدواخلنا، إلا أن الظروف هي التي ستنتصر في النهاية، فيُحاول «جون ماكجيل» النجاح في دراسته، خاصةً وهو موهوب ومتفوق، إلا أن الظروف التي تُحيطه من أب سكير وأم سلبية وشقيق مُجرم بجانب أصدقاء السوء، يجعلونه ينحرف عن المسار الذي رسمه، لتأتي النتيجة في النهاية لأن يكون «جون ماكجيل» ذاته مُجرما! أيضاً النظرة التشاؤمية نجدها في إحدي روائع المُخرج الدنماركي «لارس فون ترير» بعنوان «ميلونكوليا» أو Melancholia ، فأياً كانت مُحاولات التغيير حتماً ستنتهي بالفشل لأن العالم ذاته سينتهي،ويشير المخرج في الفيلم إلي أن حلول مشاكل كوكبنا الشرير لا تأتي سوي بالدمار الشامل لنبدأ صفحة من جديد ومن أول السطر!. لكن يختلف مع هذا الفيلم الفرنسي «إيد واحدة» أو Les Mains En Lair ، الذي يعود ليؤكد أن التغيير لا يزال مُمكناً، حتي ولو مِن خلال مجموعة من الأطفال، ففي حين يُقرر «بلاز» وأصدقاؤه أن يختبئوا مع صديقتهم الشيشانية «ميلانا» حتي لا تقوم الشُرطة بترحيلها من فرنسا، إلا أن تعقيدات الحياة وعوالمنا كِكبار هي التي تقف في وجه طريق التغيير الحقيقي للأفضل، ومثلما يلجأ الكِبار إلي التغيير بالعُنف أو بالأوامر أو حتي بالوصاية، يتخذ الأطفال من مكان مُظلم، أسفل المسرح، ليختبئوا فيه، معن آخر للتغيير، حيث قد يبدأ بطرق ومن أماكن أبسط. التغيير العُنف، وهو المعني الذي أراد إيصاله الفيلم الفرنسي «كارلوس» أو Carlos الذي يتناول سيرة الفنزويلي «إليتش رامبريز سانشيز» أو «كارلوس» الذي أسس مُنظمة إرهابية في جميع أنحاء العالم والتي داهمت مقر الأوبك في عام 1975 قبل أن يُقبض عليه مِن قِبل الشُرطة الفرنسية، ورغم أن الفيلم يتميز بتنوع أماكنه، وأيضاً بثراء معلوماته ومُحاولاته التقرب مِن حياة «كارلوس»، إلا أن إصراره علي تقديم شخصياته- خاصةً «كارلوس»- وكأن لديها هوسًا جنسيًا طوال الوقت ساهم في عدم تفهم تحولات شخصياته علي هذا النحو، إن لم يكُن المقصود هو النفور من «كارلوس» وهو ما لم يتم!.. إلا أن رسالة الفيلم المُسلحة- إن جاز التعبير- بأن العالم يتغير بمُنظمات لا هدف لها سوي تنفيذ عمليات انتحارية هنا أو هناك هو الأقرب للمنطق. طريق التغيير قد يتخذ منعطفا آخر إن رغبنا وإن فتحنا أبواب عقولنا وقلوبنا علي العالم وعلي تقبل الآخر وعلي التصالح، فالفيلم الفرنسي- الكندي «حرائق» أو Incendies الذي يستعرض قصة «نوال» المسيحية، والتي كانت نتيجة حُبها لأحد المُسلمين هو قتله وقتل الحُب معه بل وأخذ طفلها ليتربي في ملجأ!.. ورغم أن الفيلم يعمد إلي تهميش سرد المكان الذي تدور فيه الأحداث، إلا أن كُل المؤشرات تقودك إلي لبنان، حيث الجنوب، الصراع، القتل، لمُجرد أنك لست علي الدين الذي أنتمي إليه والعكس!.. في حين تبعث «نوال» بعد وفاتها برسالة لابنتها «جان» وابنها «سايمون» بضرورة البحث عن طفلها الذي تربي في الملجأ، نستعرض مِن خلال رحلة «جان» و«سايمون» مع رحلة «نوال» القديمة ما حدث للمكان وللشخصيات. التصالح أو طريق التغيير الآخر يتخذ معني في الفيلم الألماني الرائع «بينا» أوPina الذي يدور حول حياة مُصممة الرقصات الألمانية «بينا بوش» التي توفيت في عام ,2009 ومِن خلال استعراض لرقصاتها التي تُمثل فصول السنة الأربعة، نستعرض حياتها، تأثيرها بالرقص علي تغيير دواخل عوالم راقصيها، لدرجة الاستشهاد بجُملها حينما يتذكرونها. لكن ليس كُل طريق للتغيير ينتهي دائماً بالتصالح، فالفيلم الفرنسي «القاهرة .. أم وابن» أو Le Caire, Mere Et Fils في إطار تكريم مُخرجه «مُصطفي حسناوي» يأتي بأن طريق التغيير ليس دائماً للأفضل، ففي حين يعود ابن لأمه «فاطمة» لمصر، بعد غيابٍ طويل عن المنزل، نستعرض مع الاثنين التحولات التي مرت بمصر، بدايةً من قرار «جمال عبد الناصر» بتقسيم الأراضي الزراعية بعد ثورة ,1952 ففي حين تجده «فاطمة» الإقطاعية مُستبداً، يجده الابن عادلاً، وفي حين يري الابن بأنه من الطبيعي أن ينزل للحُسين، ترفض «فاطمة» هذا، بل إنها تتقبل ثقافة التيار الديني المظهري- المُتمثل في الحِجاب- في حين أن الابن يندهش من هذا لأن أمه كان تدينها فطرياً ليس مثلما هو الآن.