يعرف الجميع أن مخاطر كثيرة تحيط بالانتخابات البرلمانية التي ستبدأ بعد أيام قليلة. ويدرك الجميع في نفس الوقت أن لا مجال لتأجيل هذه الانتخابات أو إفسادها عبر أي محاولات من فلول النظام السابق أو من حشود البلطجية التي لم تنجح وزارة داخلية الثورة في إيقافها علي مدار 9 أشهر كاملة. تتبدي المخاوف من الانفلات الأمني أكبر بكثير من خطرها الحقيقي علي هذه الانتخابات، فإلي جانب البلطجة التي يمكن السيطرة عليها مع وجود قرار سياسي وإرادة حقيقية يبدو أمامنا وحش أسطوري كامن لا يؤمن أصلا بالانتخابات ولا البرلمان ولا التشريع ولا المجتمع المدني ولا يؤمن حتي بأنه جزء من «وطن» وإنما جزء من عالم آخر تحاربه الدنيا كلها ويسعي هو للانقضاض.. لا علي البرلمان وإنما علي الجميع ؟ أتحدث بالطبع عن التيار السلفي الذي جاء وجوده ومشاركته في الحياة السياسية بعد الثورة إحدي عجائب الثورة المصرية العظيمة التي يراد لها أن تدخل في متاهات وتنحرف في طرق غير مأمونة.. وأن تتحول القوي التي كان ينبغي أن تتضافر إلي قوي تتصارع من أجل إرضاء أعداء الثورة القابعين في طرة والمنتشرين في مؤسسات تري ضرورة تأديب المصريين، وأيضا أعدائها المتربصين في أمريكا وإسرائيل وبعض دويلات الخليج ؟ --- الصورة بالتأكيد ملتبسة إلي حد «عدم الفهم».. فهل حظر قانون الأحزاب الذي تم إعداده بعد الثورة، قيام أحزاب علي أساس ديني واشترط أن تقوم علي أساس ديني «متطرف»؟! ألح علي هذا السؤال وأنا أتسلم نسخة من كتاب «السلفية والعمل السياسي» للداعية السلفي السكندري الشهير، وأحد الآباء الروحيين لحزب النور د. ياسر برهامي.. وقد طلب مني أحد شباب التيار الاطلاع علي أفكار السلفيين عن قرب، والتعرف علي ما يقوله الدكتور برهامي الذي يحظي بمكانة رفيعة ونفوذ. الكتاب الذي يجري توزيعه باعتباره «الوثيقة السياسية الأساسية» للتيار السلفي والذي سيكون بين يدي ملايين المصريين مع كل الحملات الدعائية لكل مرشحي التيار السلفي يوضح إلي أي مدي نجح الاختراق البدوي عبر ثلاثين عاما في تجهيز جيل يكون مستعدا لتصدر ساحة التيار الإسلامي.. وبدلا من أن يكون معبرا عن روح وثقافة مصر، إذا بنا نجد أنفسنا أمام أفكار خارجة من مستوطنات «وهابية» منغلقة معتمة لا تري سوي التطرف البالغ المعادي لكل مظاهر الحياة ولكل إنجاز إنساني في بناء المجتمعات وتطورها. يري برهامي في بداية الكتاب أن هناك ثوابت لا يجوز النقاش فيها وأهمها «أن التشريع من صفات الربوبية ومن حقوق الإلهية ولذلك فمن الشرك والكفر والنفاق إعطاء حق التشريع لغير الله».. والحجة الرئيسية التي يستند إليها هي أقوال الشيخ الشنقيطي إلي جانب أنه سأل الشيخ ابن باز مشافهة في أواخر السبعينيات.. وقد قال له ابن باز بوضوح لا لبس فيه «فصل الدين عن السياسة كفر مستقل» ما معني ما سبق ؟ معناه أولا أن برهامي ومنذ السبعينيات كان في طليعة جيل تربي وتعلم وأخذ أفكاره وأصبح مدينا بالفضل للسعودية ومفتيها وشيوخها.. ثانيا أن الرجل لم يسأل ولم يجرؤ علي مصارحة بن باز بسؤال فني مهم وهو «لماذا يا شيخ بن باز لا تقول رأيك في سياسات بلادك - وهل موالاة أمريكا دائما أبدا وعلي طول الخط من ضمن ثوابت الإسلام؟ ثالثا إن الدكتور برهامي ومن أول سطرين في الكتاب لا يبدو فاهما لأن التشريع في البرلمان لا يمكن أن ينصب علي ما حرمه الله كأن نشاهد رئيس المجلس القادم يسأل «تقدم العضو العلماني المنحل فلان الفلاني باقتراح بإباحة الخمر وإباحة الزني والحض علي الفجور.. الموافق يتفضل برفع يده» لأن التشريع المقصود يعني أن يتوافق ممثلو الأمة علي أفضل الحلول لقضايا ومشكلات في دنيانا تحتاج إلي ضبط وإلي اجتهادات وإلي خبراء وإلي نواب يعرفون أنهم ملزمون مادام البرلمان غير مزور بتحقيق مصالح الناس وصالح الوطن. لكن هل يؤمن الدكتور برهامي بهذا المصطلح «الوطن».. الحقيقة أنني اندهشت أن الرجل وهو يقدم الوثيقة السياسية التي تحمل رؤية السلفيين للبرلمان القادم لا يتحدث عن مصر ولا يذكرها بكلمة، بل علي العكس يقول أن موافقته علي دخول السلفيين للانتخابات القادمة جاءت من أجل «وجوب الإمامة والخلافة وأنه لابد أن يكون للمسلمين خليفة واحد وحاكم واحد». يري الدكتور البرهامي أنه قد تفضل ووافق علي مشاركة السلفيين في البرلمان القادم لأنه لأن يكون برلمانا كفريا وبحسب ما يقول في الكتاب فإن كل البرلمانات التي مرت بمصر منذ دستور 23 هي برلمانات بالطبع كفرية لأنها أعطت سلطة التشريع لناس وبشر ومواطنين. يقول برهامي في الحقيقة عبر جميع المراحل التي مر بها الدستور من دستور 23 إلي الدستور المصري الدائم سنة 71 كان هناك إقصاء للشريعة وجعلها في المرتبة الرابعة.. ولاشك أن هذا تفضيل للقوانين الوضعية والعرف علي شرع الله.. وهذا من أقبح أنواع الكفر «ومن أغرب وأكثر الآراء تطرفا في وثيقة برهامي السياسية ما يقوله عن عضو مجلس الشعب، فلكي يكون داخلا هذا البرلمان لابد أن يكون هدفه نصرة الشريعة وإلا كان كافرا ومشاركا في نصرة برلمان كافر»! لابد أن تكون نية المشارك نصرة الشريعة» وماذا عن أقباط مصر من المتقدمين في هذه الانتخابات ليمارسوا عملا سياسيا لصالح بلدهم؟ لا يذكرهم البرهامي أبدا باعتبار أن البرلمان القادم لا علاقة له من الأصل سوي بتحكيم الإسلاميين في كل شيء تمهيدا لتطبيق الشريعة وصولا إلي إقامة الإمامة والخلافة ؟ وفي إطار الفكرة المهيمنة علي عقل برهامي بأن البرلمان أداة ديمقراطية كافرة لو استندت إلي أي تشريع يتعلق بمصالح الناس قام به مواطنون يقوم بعملية تكفير خاطفة وسريعة للدكتور عبد المنعم أبو الفتوح.. ففي إطار رفضه القاطع لأن يقوم البرلمان بالتشريع يقول عن المنافقين والزنادقة والكفار الكثير، لكنه يستشهد بآخرين من الذين باعوا دينهم لقاء ديمقراطية كافرة وإن تخفوا في ثياب الإسلاميين. علي حد زعمه : أذكر أن أحد قادة الإخوان الذي رشح نفسه للرئاسة عندما سئل عن ماذا تصنعون لو أتت صناديق الاقتراع برفض وإلغاء الشريعة الإسلامية أو جاءت برئيس كافر أو زنديق أو قبطي؟ فقال «نقبل بصناديق الاقتراع ».. وقد اعتبر البرهامي كل هذا من الهرطقات والكفريات التي طالت حتي الرجل المحترم المستنير عبدالمنعم أبو الفتوح؟! ويري برهامي إضافة إلي الكوارث السابقة أن «عقيدتنا لا يمكن التنازل عنها، فمسألة إقامة الدين في الأرض كلها ومشروعية الجهاد لتحرير البشرية من الطواغيت وإقامة الحدود وغيرها لا يمكن أن تغيب عن حس مسلم» لاحظ هنا أن البرهامي لا يتحدث أبدا عن الأقباط ولا عن دورهم في البرلمان القادم وأنه يقرن دائما البرلمان بالتشريع الكافر، والأقباط بالزنادقة، والشعراء والأدباء بالمنحلين، ويري تاريخ المصريين من أجل الديمقراطية والعدل والحرية ليس إلا فقرة طويلة من الأفعال الكفرية التي ستنتهي في البرلمان القادم. ولاحظ أيضا أن الرجل يتحدث عن الانتخابات في مصر ولا يتحدث أصلا عن الدولة التي ستجري فيها الانتخابات، ويتخيل الجميع ضده وضد أفكاره.. وأن الجميع يخوضون حربا ضد الإسلام تحت هذه الشعارات الخادعة، ولذلك يقول «أظن أن المنافقين والزنادقة والكفار الذين كانوا منذ فترة وجيزة يعلنون أنهم يريدون تغيير المادة الثانية من الدستور وإلغاء مرجعية الشريعة الإسلامية قد فهموا المسألة وغيروا من أسلوبهم في محاربة الشريعة. ياسر برهامي الذي لا يعرف أن خير الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر والذي تهكم علي إضراب 6 أبريل الذي كان أحد روافد ومقدمات الثورة العظيمة في 25 يناير والذي لم نسمع له كلمة في مواجهة الطاغية مبارك.. متي تعرفون أنكم تعيشون في مصر؟ ومتي تعودون من رحلتكم إلي مستوطنات الظلام؟.. وكيف ستختلفون سياسيا مع بقية التيارات السياسية في البرلمان إذا - لا قدر الله تعالي - كان لكم تواجد فيه؟!