أفرق بين الثائر وبين مثير الشغب، فالأول يعبر عن آرائه ويطالب بحقوقه المشروعة بطريقة سلمية فى إطار حرية الرأى والتعبير التى يكفلها له القانون دون الإخلال بضوابط الحفاظ على الأمن القومى والصالح العام، أما الثانى فهو مطلق العنان يفعل ما يشاء بصرف النظر عن الإضرار بالصالح العام أو زعزعة أمن الوطن. ومن هنا، فإنى أرى أن الذين هدموا واجهة مبنى وزارة الداخلية ليلة الجمعة الماضية - جمعة (تحديد المسار) - واعتدوا على مديرية أمن الجيزة وحرقوا مبنى الأدلة الجنائية (للمرة الثانية) واصطدموا بجنود القوات المسلحة واقتحموا سفارة إسرائيل، هم بالتأكيد مثيرو شغب وليسوا ثوارًا. فى واقعة اقتحام السفارة تحديدا، أقول لهؤلاء الذين استهدفوا إلحاق الضرر بإسرائيل إسوة بتورطها فى مقتل خمسة جنود مصريين داخل حدود مصر أواخر الشهر الماضى، أن إسرائيل لم تتأثر كثيرا ولكنها ستتأثر أكثر بدولة مصرية قوامها السياسى والاجتماعى والاقتصادى صلب، دولة علم وتكنولوجيا، دولة حقوق إنسان، دولة تعددية حزبية، دولة قانون حينئذ تحتل مصر مكانة إقليمية ودولية مميزة تمكنها من التأثير فى الأحداث الخارجية - مثل ذلك المتعلق بمقتل عناصر الأمن المصرية - لخدمة مصالحها الوطنية وبث نفوذها لحماية هذه المصالح. فاقتحام شقة فارغة أو حرق علم هو انتصار زائف، ولكن الانتصار الحقيقى هو يوم أن نرى مصر دولة مدنية ديمقراطية حديثة وقوية. وعلى عكس إسرائيل قد يصيب مصر بالغ الضرر على الصعيدين، الخارجى والداخلى. فخارجيا، تبدلت الدفة، قد تتراجع فرص مصر فى المطالبة بحقها القانونى فى مقتل جنودها على أرض سيناء أمام مطالبة تل أبيب والمجتمع الدولى للسلطات المصرية بحماية بعثات إسرائيل الدبلوماسية، فأصبح لإسرائيل حق الفعل ولمصر فقط رد الفعل. فما لبث رئيس وزراء إسرائيل بنيامين نتنياهو بالأمس وأن جاء ببيان صحفى يدين فيه القاهرة بالإضافة إلى قيامه بسلسلة من الاتصالات المكثفة مع واشنطن فى محاولة لاستقطابها شاهدا على الأحداث وما كان للقاهرة إلا أن تقدم شرحا ومبررات، كانت مصر فى غنى عنها. ما كان لهؤلاء توريط مصر فى أزمة دبلوماسية دولية، تصاعدت فيها الأصوات الخارجية المدينة للسلطات المصرية لعدم قيامها بواجباتها فى حماية سفارة دولة تربطها بمصر معاهدة سلام وعلاقات دبلوماسية لا ينقضها غضب الشارع. هذا بالإضافة إلى خسارة مصر شيء من هيبة دولتها وجزيل من احترام سلمية ثورتها: فكما أن سلمية ثورة 25 يناير أثارت إعجاب العالم فى 18 يوما ههنا مصر تفقدها فى ال18 دقيقة التى تم فيها الهجوم على منشآت أمن وطنية ورمز دولة أجنبية تحت الحماية المصرية. وقد استشعرت هذا فى حديثى عقب الأحداث مع أصدقائى الأجانب الذين كانوا دائما ما يشيدون بسلمية ثورة يناير، التى كانت تعد قبل حادث الأمس أولى الثورات السلمية بعد ثورة ألمانيا التى أطاحت بحائط برلين عام 1990 دون إراقة نقطة دماء واحدة وثورة الياسمين التونسية التى أطاحت بنظام بن على بذات الطريقة أن يصبح العنف منهج الثورة لا السلمية وقوة الذراع طريقتها، لا رجاحة العقل أن تتحول ثورة 25 يناير من ثورة بيضاء إلى ثورة دموية - على الأقل فى عيون البعض - مرفوض. أما على الجبهة الداخلية فقد أصاب مصر أيضا عظيم الضرر إثر أحداث التاسع من سبتمبر أولها فقدان خمسة من رجالها ماتوا متأثرين بجروح بالإضافة إلى إصابة حوالى 1094 (إلى الآن) وثانى هذه الأضرار عدول البعض فى الشارع المصرى عن مساندة المتظاهرين فى النداء بمطالبهم المشروعة بجمعة تصحيح المسار، وأهمها وقف المحاكمات العسكرية للمدنيين حتى أنه هيأ الجو تارة أخرى لعودة الجدل فى دائرة حوار الرأى العام حول تطبيق الأحكام العرفية، والذى كان قد بدأ يندثر من ذاكرة الأمة. أما ثالث أضرار أحداث جمعة تصحيح المسار على الجبهة الداخلية فهو إعطاء السلطة التنفيذية بصفة عامة مبررًا منطقيًا لتطبيق جميع النصوص القانونية المتاحة بقانون الطوارىء (بما فيها الإعمال بمحكمة أمن الدولة طوارىء)، الذى كان وقفه مستهدفا فى الفترة القادمة، كما أعلن وزير الإعلام بالأمس، وبصفة خاصة إعطاء الأجهزة الأمنية - والتى رفعت الحالة الأمنية إلى الحالة (ج) - مبررات استخدام العنف بمباركة شريحة من الشعب والمجتمع الدولى، وأخيرا قدمت ميدان التحرير وما حوله من مناطق جاذبة للمتظاهرين على طبق من فضة للمجلس العسكرى لإعادة عسكرتهم. فى النهاية، ما كان لهؤلاء الذين أخفقوا فى تقدير الثمن السياسى لأعمال عنفهم إلحاق كل هذه الأضرار بمصر، كانت مصر فى غنى عنها يجب أن نفرق بين حق المواطنين والمواطنات فى حرية الرأى والتعبير، منها حق التظاهر السلمى وبين واجب احترام النظام العام دون زعزعة أمن الوطن أو التعدى على منشآته فالثورة قامت لبناء مصر لا لهدمها. لذلك تقتضى المسئولية الوطنية أن أطرح على حكومة الدكتور عصام شرف وعلى المجلس الأعلى للقوات المسلحة الإجراءات الآتية للنقاش: - أولا: الدفع بسرعة التحقيق العادل مع كل من سولت له نفسه يوم الجمعة قبل الماضى القيام بأعمال تخريب أو التحريض عليها.. وأن تتم هذه التحقيقات وفقا لأحكام القانون المدنى أمام المحاكم المدنية وليست العسكرية - التى لا أشكك فى نزاهتها ولكنى أعترض على مثول المدنيين أمامها، إذ ليس من شأنها إلا محاكمة العسكريين فقط فلا يصح أن نطلب من الأمن أن يعود إلى الشارع فى نفس الوقت الذى تهاجم فيه أجهزته دون محاسبة ولا يصح أن نطالب بدولة قانون دون محاكمة الخارجين على القانون. - ثانيا: ومن جانب أجهزة الأمن عليها هى الأخرى الاستمرار فى الالتزام بضبط النفس وعدم اللجوء لإجراءات وصلاحيات العنف الأمنى التى تعيد إخراج الماضى القريب البغيض، إلا فى حالات - ما نسميه فى العلوم السياسية - الاستخدام المشروع للعنف وهو حق أجهزة الأمن القانونى فى الدفاع عن النفس وعن مؤسسات الدولة عن طريق الاعتماد على أدوات ردع تحترم حقوق الإنسان مثل الصاعق الكهربائى واللاكريماتور (المنتج للغاز المسيل للدموع) وعصا الباتون الخشبية، فاللجوء إلى القمع الأمنى لن يخرجنا من الأزمة الراهنة، ببساطة لأن جوهر هذه الأزمة سياسيا واجتماعيا وثقافيا قبل أن يكون أمنيا. - ثالثا: بما أن حادث قتل عناصر الأمن المصرية على أرض سيناء أواخر الشهر الماضى هو أساس السخط المشروع الذى تفجر فى صورة أحداث عنف 9 سبتمبر، يجب على القاهرة وتل أبيب سرعة الانتهاء من تشكيل لجنة مشتركة للتحقيق فى الحادث، فإذا ثبت تورط إسرائيل فى اغتيالهم (عمدا)، بناء عليه تناقش الحلول المطروحة المناسبة وأولها إصدار الحكومة لبيان تحمل فيه إسرائيل المسئولية، ثم تتقدم وزارة الخارجية المصرية بطلب لتل أبيب بتقديم اعتذار رسمى يتجاوز الاعتذار المائع الذى سبق وأن قدمته فإذا رفضت تلجأ مصر إلى محكمة العدل الدولية لطرح إعادة التفاوض فى بعض بنود اتفاقية كامب ديفيد للسلام المختصة بنشر قوات مصرية على أرض سيناء وتستدعى أو تسحب السفير المصرى من إسرائيل، فليس من الحنكة السياسية أن تتخاذل مصر فى اتخاذ الإجراءات اللازمة عقب اغتيال عدد من أبنائها على يد أجهزة أمن إسرائيلية، بل تبنى جدارا أمنيا حول سفارتها فى الوقت الذى تطرد فيه دولة مثل تركيا سفير إسرائيل، فى واقعة مشابهة. - رابعا: على المجلس الأعلى للقوات المسلحة الإسراع فى تسليم مقاليد الحكم إلى سلطة مدنية منتخبة انتخابا حرا نزيها من الشعب وفق خريطة زمنية محددة، الأمر الذى يدفع بحكومة ثورة إلى الحكم، حكومة تتبنى مطالب الثوار دون وسيط وتفتح مجالات ضغط مؤسسية أخرى غير الخروج إلى الشارع لتحقيق مطالب سياسية فتمنع حدوث مثل هذه الأزمات مستقبلا حتى يتم نقل السلطة إلى المدنيين. - خامسا: فى محاولة للتأكيد على هيبة دولة مصر وسلمية ثورتها على الحكومة والمجلس الأعلى للقوات المسلحة أن يجلسوا مع ممثلى القوى الوطنية لبحث الأمر ثم يتقدموا ببيان يؤكد فيه التزام مصر بكل الاتفاقيات الدولية بما فى ذلك تأمين كل البعثات الدبلوماسية داخل جمهورية مصر العربية. هذا بالإضافة إلى ضرورة إلقائهما - المجلس والحكومة - خطابًا رسميًا على شعب مصر يرتقى إلى مستوى الحدث، يشرحان فيه رؤيتهما للمشهد السياسى بعد 9 سبتمبر ويعرضا فيه الحلول المقترحة على أن يبتعدا فى خطابهما عن استخدام لغة النظام السابق الميكانيكية المرتكزة على سرد إنجازات الحكومة، كما قام يوم السبت السفير محمد حجازى المتحدث الرسمى باسم رئاسة مجلس الوزراء فى مداخلة هاتفية فى إحدى القنوات الفضائية يسرد إنجازات حكومة الدكتور شرف، وبدلا من ذلك يقدمان نقدا ذاتيا يعترفان فيه بسوء إدارتهما لأزمة التاسع من سبتمبر وعدم محالفتهما الحظ فى تقديرهما للموقف.