مع بدء العَد التنازلى للانتخابات الأمريكية، التى تُعتبر الأصعب فى تاريخ الولاياتالمتحدة، دخل طرفا الصراع الانتخابى دونالد ترامب الرئيس الحالى ومنافسه جو بايدن خَندقًا مظلمًا؛ خصوصًا بعد تفشى فيروس «كورونا» فى البلاد، فضلًا عن الاحتجاجات القوية التى شهدتها الشوارع الأمريكية على خلفية مقتل المواطن الأمريكى من أصل إفريقى جورج فلويد، الأمْرُ الذى أضفى على المَشهد السياسى والاقتصادى الكثير من الأزمات داخليّا وخارجيّا. فى بداية العام الجارى، صوّر الرئيس دونالد ترامب، خلال خطابه لحالة الاتحاد، قوة الاقتصاد وازدهار سوق الأوراق المالية بأنه نجاحه المميز، لكن مع جائحة «كوفيد- 19» تواجه تلك الإنجازات انكماشًا غير مسبوق، بَعد فقدان ما يقرب من 40 مليون أمريكى وظائفهم، ومعاناة الاقتصاد من حالة من الركود، التى تُعد أقوى من أزمة 2008م، ورُغْمَ تقديم الإدارة الأمريكية حزمًا من الإنقاذ والتحفيز؛ فإنها فى حاجة للمزيد، وهو ما أثّر على مستوى شعبية ترامب، فضلًا عن معالجته السلبية لقضية مقتل المواطن «فلويد» وما أعقبها من احتجاجات واسعة. تقرير مركز ING للتحليلات الاقتصادية والمالية، الذى صدر فى يونيو الماضى، تحت عنوان: «مرصد السياسة الأمريكية: هل حان وقت بايدن؟» تناول تحليلًا للمَشهد السياسى والاقتصادى الأمريكى الحالى وتأثيراته المتوقعة على الانتخابات الرئاسية التى ستنطلق فى 3 نوفمبر المقبل، بجانب الحديث عن الخطة الانتخابية لكلا المرشحَيْن ومستقبل السياسة الأمريكية فى حال فوز كل منهما.
أزمات داخلية المعركة الانتخابية ال59 فى الولاياتالمتحدة تنطلق فى ظروف حرجة داخل الشارع الأمريكى، فى ظل التحدى غير المسبوق لجائحة «كوفيد- 19» التى تحوّلت من أزمة صحية إلى قضية سياسية تم استغلالها وتوظيفها فى الحملات الانتخابية لكلا المرشحيْن؛ ف«جو بايدن» صعّد من انتقاداته لترامب ووصف سياسته ب«الأخطاء الكارثية»، فى المقابل سعى ترامب لنفى الانتقادات، وأكد أن الديمقراطيين يستخدمون الفيروس «كخدعة انتخابية»، واصفًا منافسه ب«عدم الكفاءة» خلال التعامل مع فيروس أنفلونزا الخنازير فى فترة حُكم الرئيس السابق باراك أوباما عام 2009م. رُغم إعلان ترامب التوصل إلى لقاح ضد فيروس «كورونا»؛ فإن طرحه سيكون فى الأول من نوفمبر المقبل، قبل يوميْن فقط من بدء السباق الانتخابى، وهو ما دفع بايدن للتشكك من جدوى اللقاح، مؤكدًا أن ترامب يسعى إلى الفوز بأكبر عدد من أصوات الأمريكيين دون النظر إلى التحذيرات الطبية. استطلاعات الرأى الأمريكية تقف إلى جانب بايدن؛ حيث أظهرت تفوقًا واضحًا على شعبية ترامب؛ خصوصًا بعد أزمة «كورونا»؛ حيث كشف آخر استطلاع للرأى أجرته جامعة مونموث الأمريكية أن 55 % من الشعب الأمريكى يعتبرون أن الولاياتالمتحدة تتجه فى مسار خاطئ، بَعد تدهور واضح لأرقام مؤيدى سياسة ترامب منذ فبراير الماضى، بينما اعتبر أكثر من 40% من الناخبين أن البلاد تسير على المسار الصحيح، كما أظهرت استطلاعات الرأى التى أجرتها وسائل الإعلام ووكالات استطلاع الرأى الرئيسية فى الولاياتالمتحدة، تقدُّم بايدن بنسبة 2 % إلى 10 % بمتوسط 6.9% نقطة. ورُغم نتائج الاستطلاعات؛ فإن العديد من المتغيرات تتحَكم فى نتائجها، أبرزها المتغير السياسى والاقتصادى، فعلى المستوى السياسى حقق ترامب وعودَه الانتخابية التى أدلى بها قبل وصوله إلى السُّلطة عام 2017م، منها الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل وإلغاء الاتفاق النووى الإيرانى، وهو ما أدى لمساندة اللوبى الصهيونى له بصورة كبيرة، بالإضافة إلى وضع بعض الدول منها الإسلامية على لوائح عدم الدخول للولايات المتحدة، وبناء السّور العازل مع المكسيك لمنع عبور المهاجرين، وعلى الجانب الاقتصادى، أجرى ترامب العديد من الاتفاقيات الاقتصادية، منها اتفاقيات استثمارية مع السعودية بقيمة 400 مليار دولار، وانسحاب بلاده من بعض المنظمات الدولية لتقليص حجم النفقات الأمريكية. ساعدت هذه العوامل ترامب على تحسين صورته أمامَ المواطن الأمريكى، لكن «كورونا» تسببت فى أزمة ثقة بين الشارع الأمريكى وحكومة ترامب؛ حيث اهتزت المؤشرات الاقتصادية وانحدر الاقتصاد الأمريكى بمعدل سنوى قدره 4.8 %، وتقدَّم أكثر من 26 مليون شخص بطلبات للاستفادة من إعانات البطالة، ما أدى لانخفاض تاريخى فى دورة الأعمال وثقة المستهلك، وهو ما وصفه مارك زاندى، كبير الاقتصاديين فى مؤسّسة «موديز» ب«غير المسبوق»، بعد اعتماد مجلس النواب على زيادة الدين العام الأمريكى 2.2 تريليون دولار، مارس الماضى، كحزمة لتحفيز الاقتصاد. المؤشرات تكشف عن وضع مُحرج لترامب أمام الشعب الأمريكى، الذى كان يعتقد أن اقتصاد بلاده الأكبر فى العالم وقادر على عبور الأزمة، ولكن ما حدث عكس ذلك، بالإضافة إلى أزمة العنصرية التى أدت إلى احتجاجات عنيفة على مدى 6 أيام فى الشارع الأمريكى عقب مقتل جورج فلويد، وهى العناصر التى يستخدمها مرشح الحزب الديمقراطى جو بايدن كورقة لصالحه فى السباق الانتخابى ضد ترامب. «ترامب» فى المقابل حاول محاكاة خطابات الرئيس الأمريكى الأسبق «ريتشارد نيكسون» أثناء حملته الانتخابية فى 1968م، من خلال الترويج لرسالة تطبيق «القانون والنظام»، وهو الاتجاه الذى تميل إليه الأحزاب المحافظة، الفرْق أن «نيكسون» كان خارج السُّلطة حينما روّج للخطاب، بينما «ترامب» هو صاحب المنصب، فضلًا عن أن مصداقية «ترامب» لدى الجماعات المحتجة فى حدّها الأدنى.
«التكنيك» الانتخابى مع زيادة تعقّد الأزمات فى الداخل الأمريكى، اتبع الرئيس دونالد ترامب خطة «التجمع حول العلم» rally-round-the-flag effect، وهى نظرية تُستخدم فى العلوم السياسية والعلاقات الدولية لتفسير زيادة الدعم الشعبى قصير المدى لحكومة أو قادة سياسيين خلال فترات الأزمات أو الحرب الدولية، وهو ما حدث مع «ترامب» فى أوائل إبريل 2020م مع بدايات أزمة «كورونا»؛ حيث ارتفعت معدلات شعبيته إلى 45 %، وهى نسبة أعلى من تلك التى حصل عليها فى أول أشُهر من توليه الحُكم، ومع ذلك، انخفضت شعبيته سريعًا؛ لتصبح أقل من 43 %، وأعلى بقليل من نطاق 40-42 %، وهو النطاق الذى دارت حوله شعبية «ترامب» خلال 2019م، وهو ما ينظر إليه المحللون بأنه لايزال يحصل على دعم كبير، وأن تأثير أزمة «كورونا» على شعبيته كان متواضعًا. الرئيس الأمريكى يحاول تصوير الانتخابات على أنها استفتاء على شعبية خصمه جو بايدن، بدلًا من التركيز على إنجازاته الشخصية؛ حيث يتجاهل اللوم على التكلفة الاقتصادية لأزمة «كورونا»، ويلقى بكل المسئولية والهجوم على الصين، ويتهم «بايدن» بأنه شخص غير موثوق فيه، وغير مؤهَّل للرئاسة، ويصفه دائمًا بلقب «جو النائم»، فضلًا عن اتهامات «بايدن» ب«الشيخوخة»، وصل الأمرُ لمحاولة إدانة ابنه «هانتر بايدن»؛ حيث طالب مجلس الشيوخ التحقيق مع «بايدن الابن» فيما يتعلق بعمله لصالح شركة الطاقة الأوكرانية «بوريسما». أسلوب ومخطط ترامب الانتخابى مع بايدن، هو الأسلوب نفسه الذى استخدمه مع منافسته الديمقراطية «هيلارى كلينتون»، حينما تم تسريب رسائل البريد الإلكترونى الخاص بها؛ حيث تعتمد استراتيجية «ترامب» على إثارة الرأى العام ضد خصمه بقضايا تقع بين نطاق «القضايا الوهمية والقضايا التى لم تثبت صحتها»، وهو ما يجعل خصمه فى موقف الدفاع دائمًا. صحيفة «الجارديان» البريطانية، كشفت أن جو بايدن يعمل على خَلق تحالفات بين جنرالات الجيش ونشطاء حركة «حياة السود مهمة» والجمهوريين الساخطين والاشتراكيين التقدميين، واصفًا برنامجه بأنه الأكثر تقدمية فى التاريخ الأمريكى.
الفوز أو الفوضى
الرئيس الأمريكى دونالد ترامب، وصف خلال مؤتمر صحفى الاقتراع بأنه عملية كارثية، خلال ردّه على سؤال أحد الصحفيين عمّا إذا كان سيلتزم بالانتقال السلمى للسُّلطة سواء فوزًا أو خسارة أو تعادلًا مع بايدن، قائلًا: «تخلصوا من بطاقات الاقتراع.. تحصلوا على انتقال هادئ، لن يكون هناك انتقال، بل استمرار». هذه ليست المَرّة الأولى التى يلوّح فيها ترامب بعدم قبول الهزيمة أمام أى من خصومه؛ حيث رفض التعهد بقبول نتيجة الانتخابات الماضية أمام هيلارى كلينتون، لكنه فاز فى النهاية بأصوات المجمع الانتخابى، رُغم خسارته التصويت الشعبى، وتقبّلت كلينتون الهزيمة. الموقف هذه المرّة مختلف جذريّا، فبَعد تفشى فيروس «كورونا» الذى أودى بحياة أكثر من 200 ألف أمريكى وأصاب أكثر من 7 ملايين و145 ألفًا، سيزيد الاعتماد على التصويت عبر البريد، وهو ما يراه ترامب عبر «عملية تزوير ضخمة» لصالح الديمقراطيين. موقع «ذا هيل» التابع للكونجرس الأمريكى، نقل عن خبراء قانونيين تأكيدَهم أن الرئيس والإدارة لهما دور ضئيل فى الإبلاغ عن نتائج الانتخابات فى جميع الولايات الخمسين ومقاطعة كولومبيا أو التصديق عليها، وأن ساحات القتال الرئيسية ستكون محاكم الولايات التى سيكون قرارها النهائى فى جميع الخلافات حول وصول الناخبين، وأوراق الاقتراع عبر البريد وفرز الأصوات المتأخرة. البروفيسور جريجور كوجر، عميد قسم العلوم السياسية بجامعة ميامى بولاية فلوريدا، قال إن ما يقوم به ترامب «غير أمريكى»، موضحًا أن أحد المبادئ الأساسية للسياسة الأمريكية أننا نختار قادتنا عن طريق الانتخاب، وأن هجمات الرئيس ترامب المستمرة على شرعية الانتخابات الأمريكية ورفضه احترام نتائجها سلوك غير أمريكى. الولاياتالمتحدة شهدت العديد من الأزمات الإجرائية على مدار تاريخها حول الانتخابات، لكن لم يسبب أى منها أزمة بالمعنى الحقيقى إلا فى انتخابات عام 2000م عندما حسمت المحكمة العليا نتيجة ولاية فلوريدا، وأعادت فرز الأصوات، مما أدى لفوز جورج بوش ضد ألبرت آل جور. وترى مجلة «ذا أتلانتيك» أن احتمال الفوضى أصبح نهجًا لبعض أنصار ترامب، بعد خروج البعض منهم فى مواكب شبه عسكرية ملوّحين بصوره، وباعثين رسائل حول إمكانية إثارتهم الفوضى حال خسارة ترامب، وعلى جانب آخر سارع بايدن بالتعليق على تصريحات ترامب قائلًا: «فى أى بلد نعيش؟»، وسبق لبايدن التحذير من احتمال قيام ترامب بسرقة الانتخابات الرئاسية، واصفًا معارضة ترامب للتصويت بالبريد وسط تفشى «كورونا» بأنها جزءٌ من جهوده لحرمان المواطنين من التصويت. ولم تكن هذه الواقعة الوحيدة التى يصطدم بها ترامب مع ناخبيه أو مع حكام الولايات؛ حيث أعلنت إدارة الرئيس الأمريكى، أنها بصدد قطع المساعدات الفيدرالية عن عدة مدن باعتبارها «مناطق تسمح فيها السُّلطات بنشر الفوضى»، بعد رفضهم التعامل مع أعمال الشغب التى أعقبت مظاهرات مقتل جورج فلويد؛ حيث قالت وزارة العدل الأمريكية إن رؤساء إدارات نيويورك وبورتلاند وسياتل «رفضوا اتخاذ إجراءات مناسبة لمكافحة الأنشطة الإجرامية»، متهمة إياها بالتغاضى عن «الفوضى والعنف والدمار» الذى طال الممتلكات الخاصة والعامة. من جانبهم رد عمدة نيويورك، بيل دى بلاسيو، وعمدة بورتلاند، تيد ويلير، وعمدة سياتل، جينى دوركان، فى بيان مشترك، على اتهامات إدارة الرئيس الأمريكى، واصفين إياه بأنه يمارس ألعابًا سياسية رخيصة وينتهك القانون، فى حين يرى محللون أن إجراءات ترامب ربما تكون ورقة ضغط للتصويت له فى تلك المدن، بعد تراجُع شعبيته ووقوف حكام الولايات أمام قراراته. «ثالوث القوى» الخارجية فى 10 سبتمبر الماضى، أعلنت شركة «مايكروسوفت» الإلكترونية أن قراصنة تربطهم علاقات مع روسياوالصينوإيران يحاولون التجسُّس على أشخاص وجماعات مشاركة فى انتخابات الرئاسة الأمريكية، وقالت «إليزابيث براو»، من «المعهد المَلكى للخدمات المتحدة» أن روسيا ستعمل على التدخل لصالح ترامب، والصين لصالح بايدن، كما تسعى إيران لتقسيم البلاد، موضحة أنه منذ 2016م، تنصب جهود موسكو للتأثير على الانتخابات لدعم إدارة ترامب، التى يُفضلها الرئيس بوتين؛ لأنها فشلت فى محاربة روسيا بقوة من الناحية الجيوسياسية. المسئول السابق فى الحكومة الأمريكية «جيريمى باش»، يقول: «حقيقة أن الخصوم مثل الصين أو إيران لا تعجبهم سياسات الرئيس الأمريكى أمرٌ طبيعى.. ما هو غير الطبيعى وخطير أن خصمًا مثل روسيا يحاول إعادة انتخاب ترامب»، فوفق صحيفة «نيويرك تايمز» الأمريكية، التى نشرت تقريرًا خاصّا بمكتب التحقيقات الفيدرالى أكد محاولات التدخل الروسى لمساعدة ترامب للفوز فى الانتخابات. ونقلت الصحيفة تصريحات لمدير مكتب التحقيقات الفيدرالى كريستوفر راى، الذى أوضح أن موسكو تحاول التأثير على الانتخابات الرئاسية فى عام 2020م، لكنها لا تمس البنية التحتية، إلّا أنه لم يقدم أى دليل على وجود محاولات روسية للتأثير على الانتخابات الأمريكية، فضلًا عن اشتباه الاستخبارات الأمريكية، فى رغبة روسياوالصينوإيران، بالتدخل فى سَير العملية الانتخابية.