أُثيرت خلال الفترة الأخيرة العديد من الشكوك حول إمكانية استمرار سياسة مؤسسات التمويل الدولية المتمخضة عن اتفاق بريتون وودز، خلال عصر ما بعد كورونا. وذلك على خلفية التغيُّرات الدراماتيكية التى أحدثها هذا الفيروس المستجد فى بنية النظام المالى والاقتصادى العالمى، بعدما تسبب فى أكبر أزمة اقتصادية يشهدها العالم، منذ الكساد الكبير فى ثلاثينيات القرن الماضى. على وقع هذه المتغيرات، وضع العديد من الخبراء عدة سيناريوهات لمستقبل تلك المؤسسات التى يعتقد أن تطال طريقة إدارتها الكثير من المتغيرات والإصلاح خلال الفترة المقبلة، وفى هذه السطور القادمة نرصد أهم هذه السيناريوهات. بريتون وودز بدأ انعقاد مؤتمر Bretton Woods بعد الحرب العالمية الثانية، وتحديدًا فى يوليو من عام 1944م، وتمثلت أطراف هذه الاتِفاقية بأربعٍ وأربعين دولة، أو حكومة، ومن ضمنها الاتِحاد السوفيتى (سابقًا)، حيث سعى المؤتمر بشكل أساسى إلى تنظيم إجراءات الترتيبات المالية بعد الحرب. وكان من أبرز نتائج هذه الاتفاقية إنشاء البنك الدولى للإنشاء والتعمير وصندوق النَّقد الدولى الذى تأسس فى السابع والعشرين من ديسمبر من عام 1945م، بموجب الاتِّفاقية، والموافقة على تطبيق نظام أسعار الصرف الثابتة مع عملة الدولار الأمريكى باعتبارها العملة الرئيسية؛ حيث ثبُتت عملات أجنبية مقابل الدولار، وتحدّدت عملة الدولار بقيمة 35 دولارًا لكلِ أونصة واحدة مِن الذهب، وأخيرًا تمخضت عن هذه الاتفاقية منظمة التجارة العالمية، والتى تأسست فى تسعينيات القرن الماضى بعد عدة اتفاقيات لتحرير التجارة العالمية. مؤسسات التمويل وضعت جائحة فيروس كورونا مؤسسات التمويل الدولية، المتمثلة فى البنك وصندوق النقد الدوليين فى موقف صعب؛ إذ زادت طلبات الدول المقترضة من تلك المؤسسات بصورة غير مسبوقة، فيما أظهرت الجائحة قصورًا شديدًا فى السياسة السابقة لتلك المؤسسات، وأصبح واضحًا أن الوقت قد حان لإعادة النظر فيها، كونها كانت من أهم أسباب تعميق الأزمة الاقتصادية. وفى السياق نفسه، أكد الدكتور حازم الببلاوى، رئيس الوزراء السابق والمدير التنفيذى لصندوق النقد الدولى، خلال ندوة أقامها المركز المصرى للدراسات الاقتصادية، على أن أهم الدروس المستفادة من الأزمة الحالية تتمثل فى التأكيد على أننا نعيش فى عالم يتأثر ببعضه البعض ويتجه إلى مزيد من الترابط والتداخل لمواجهة مشاكل هى بطبيعتها عالمية، وتحتاج لسياسات وحلول عالمية، وهو ما أبرزته أزمة كوفيد- 19، والتى لا تقتصر على كونها مجرد مرض، وإنما باتت ظاهرة عالمية تحتاج لمواجهة عالمية، وهو ما ينطبق أيضًا على المشكلات العالمية المتعلقة بتغيُّر المناخ أو الانفجار السكاني. وشدد الببلاوى على أن مؤسسات صندوق النقد والبنك الدوليين، هى الأقدر على مواجهة هذه المخاطر المالية العالمية، لافتًا إلى أن الاحتياطات المالية لمواجهة أزمة كورونا يصعب توفيرها من أسواق مالية أو دول لأخرى، لأن الجميع يواجه نفس المشكلة، وبالتالى فإن المؤسسات العالمية هى الوحيدة التى يمكنها إقراض الدول خلال هذه الأزمة. وكشف المدير التنفيذى لصندوق النقد الدولى، عن تلقى الصندوق طلبات من 100 دولة للحصول على قروض لمواجهة الأزمة ودعم الاستقرار المالى، حصلت منها 60 دولة على قروض بالفعل، كما وافق الصندوق على تخفيف الأعباء المالية على 27 دولة، بالإضافة إلى ذلك طالب الصندوق من الدول دائمة العضوية بتخفيف عبء المديونية على الدول الفقيرة، استجابت منها حتى الآن 20 دولة إلى جانب الموافقة على توفير تسهيلات قصيرة الأجل. حتمية الإصلاح وفق آراء معظم المحللين والمراقبين للأوضاع، فإن العالم لا بُد أن يشهد تغيرات سياسية واقتصادية غير مسبوقة بسبب الجائحة، ويتبع ذلك بالضرورة أن تشهد جميع المؤسسات الدولية متغيرات هيكلية تتواكب مع الوضع الجديد. قال السفير راجى الإتربى، السفير المصرى المناوب بالبنك الدولى، إن الأزمة الحالية لم تشهدها البشرية من قبل منذ 100 عام، وهو ما سيكون دافعًا لتطوير مؤسسات بريتون وودز، لافتًا إلى أن البنك الدولى شهد إصلاحات كثيرة منذ تأسيسه فى أربعينيات القرن الماضي. وأضاف أن عام 2018 شهد أكبر عملية إصلاح، وكان للدول النامية الريادة فى هذا التطوير، كما شهدت تلك السنة زيادة فى رأس المال بعدما قدم بنكان فى الصين «بنك التنمية وبنك الاستيراد والتصدير» تمويلات دولية تفوق ما يقدمه البنك الدولى. وأشار الإتربى خلال كلمته فى ندوة مركز الدراسات الاقتصادية، إلى أن الاقتصاد الدولى هش ويعانى من أزمة مالية وتغيرات مناخية وأوبئة، وازدياد فى الفجوة التمويلية، موضحًا أن حجم فجوة التمويل الدولى قبل الجائحة تصل إلى 15 – 20 تريليون دولار، إضافة لضرورة ضخ 2.5 تريليون دولار سنويا فى عمليات التنمية حتى 2030. وتابع أن البنك الدولى خصص تمويلًا بنحو 160 مليار دولار لمساعدة الدول على مواجهة فيروس كورونا، لافتًا إلى أن هذا المبلغ من المتوقع أن يصل إلى 250 مليار دولار حتى يوليو عام 2023. وأكد مندوب مصر لدى البنك الدولى أن السيناريو المتوقع بعد انتهاء أزمة كورونا، هو تزايد تطوير التّوجه الإستراتيجى والفكر ومنهجية البنك الدولى، بينما ترجع آلية التطوير إلى إرادة الدول ذات المساهمة الأكبر فى رأس مال البنك، بجانب مساهمة الدول النامية فى فرض إرادة التطوير. وطالب الإتربى بإعادة صياغة أهداف التنمية المستدامة 2030، لتكون أهدافًا قابلة للتحقيق وتعزيز استخدام تمويل التنمية لتحقيق الاستقرار وتجنب النزاعات وتشغيل طاقات الإنتاج وزيادة الثقة بين المواطنين والحكومات. التجارة العالمية تواجه التجارة العالمية صعوبات شديدة منذ الأزمة المالية العالمية فى 2008، لكن هذه الصعوبات زادت بشكل كبير خلال الآونة الأخيرة بفعل الإجراءات الدولية لمواجهة فيروس كورونا، وهو ما أدى إلى تراجع كبير فى حجم تداول التجارة من المتوقع أن يصل إلى 32 %. ولم تكن التحديات والصعوبات تقتصر فقط على التجارة الدولية؛ بل طالت أيضا عمل منظمة التجارة العالمية التى نالها الكثير من الانتقادات بسبب قواعدها وقوانينها التى وصفت باللا مساواة والتحيُّز، وهو ما وضعها أمام تحدٍ وجودى بعد تلويح الإدارة الأمريكية بالانسحاب منها، على غرار ما حدث مع منظمة الصحة العالمية. وأكد عبدالحميد ممدوح، المدير السابق لقطاع التجارة فى الخدمات والاستثمار بمنظمة التجارة العالمية، أن التجارة العالمية تواجه صعوبات كبيرة منذ عام 2008 والتى نتج عنها أزمة مالية، لكنها لم تكن بنفس حدة الأزمة الحالية، والتى ترتب عليها تراجع فى عملية تحرير التجارة وإدارة العولمة بطريقة حكيمة، إضافة لوباء كورونا الذى أثر على العجلة الاقتصادية بجانبيها «الإنتاج والاستهلاك». وأوضح المرشح المصرى لمنظمة التجارة العالمية، أن الأزمة الحالية تؤثر على التجارة فى مفهومها الجديد، والتى لا تقتصر فقط على تجارة السلع، ولكن أيضًا تجارة الخدمات التى تمثل 50 %من حجم التجارة العالمية، وفقًا لإحصائيات منظمة التجارة العالمية. ويتوقع ممدوح حدوث تغيير كبير فى أسلوب عمل المنظمة والتعجيل بالاقتصاد الرقمى، قائلًا: «ما كان يحدث فى السنوات الخمس الماضية، سيحدث فى شهور قليلة، وستتجه التجارة لكل ما هو رقمى سواء التجارة السلعية أو تجارة الخدمات، وهو التوجه الذى بدأ بالفعل قبل أزمة كورونا». رؤية عالمية لم تختلف نظرة الخبراء المصريين كثيرًا عن الرؤية التى أعلنها ديفيد ليبتون، نائب المدير العام السابق، لصندوق النقد الدولى خلال المؤتمر الذى عقد بمناسبة مرور 75 عاما على إنشاء مؤسسات بريتون وودز فى يوليو من العام الماضي. وقال ليبيتون إن صعود نجم الصين واقتصادات أخرى يحدث تغييرًا جوهريًا فى المشهد العالمى، خاصة مع نمو اقتصادات الأسواق الصاعدة والاقتصادات النامية وتقارب مستويات الدخل، من المتوقع أن تهبط حصة الاقتصادات المتقدمة فى الناتج العالمى من أكثر من النصف إلى نحو الثلث على مدار الخمس والعشرين سنة القادمة. وأضاف إن كبار السن فى الاقتصادات المتقدمة سيستهلكون مدخراتهم بالتدريج فى الوقت الذى تحتاج فيه البلدان ذات النسبة الأكبر من الشباب إلى تمويل استثماراتها، لافتًا إلى أنه من الممكن أن تصبح قضايا الشيخوخة موضع اهتمام فى كل أنحاء العالم مع ارتفاع متوسط العمر المتوقع وتراجع معدلات الخصوبة، وهو ما سيكون له انعكاسات عميقة على التجارة العالمية وتدفقات رؤوس الأموال. وأشار إلى أنه من المتوقع أن تتحول مراكز النشاط الاقتصادى على مدار العقود القادمة، لتزداد أهمية المراكز المالية الجديدة، موضحًا أن التجارة الحرة وأسعار الصرف المرنة وحركات رؤوس الأموال غير المربكة، تمثل مقومات أساسية لازدهار الاقتصاد العالمى، ما يجعل دور المؤسسات متعددة الأطراف وخاصة صندوق النقد الدولى أهم من أى وقت مضى.