تقام مناظرة تليفزيونية على الهواء مباشرة بين بن على يلدريم وأكرم إمام أوغلو، مرشحى حزبى «العدالة والتنمية» و«الشعب الجمهورى» التركيين لرئاسة مدينة إسطنبول، غدًا الأحد، تحت إدارة الصحفى التركى المخضرم إسماعيل كوجوك كايا. وتأتى المناظرة قبل أسبوع من الانتخابات التى قررت السلطات التركية إعادتها فى 23 يونيو الجارى، بعد عقدها فى مارس الماضى وفوز «أوغلو» مرشح حزب «الشعب الجمهورى» المعارض بها، ما مَثل ضربة قوية للرئيس التركى رجب طيب أردوغان. وأيًا كان ما ستكشفه المناظرة، سيضع مزيدًا من التحديات أمام «أردوغان»، والذى أعمته طموحاته ولهثه وراء السلطة، وجعله يثور لخسارة إسطنبول، أكبر مدينة فى تركيا ومفتاح اقتصادها، وضغط على اللجنة العليا للانتخابات لاعادة التصويت على رئاستها من جديد. ماذا لو خسر مرشح «أردوغان» الانتخابات أمام «أوغلو» مرة أخرى؟ وماذا أيضا لو فاز فى ظل اتهام الداخل والمجتمع الدولى ل«أردوغان» بالبعد عن الديمقراطية والفساد والإصابة ب«جنون العظمة» وإعادته الانتخابات بتوجيه وضغوط منه؟ وما السيناريوهات المتوقعة للوضع فى تركيا خلال الأيام القليلة المقبلة؟ سر انهيار «العدالة والتنمية». «نتيجة إعادة الانتخابات فى إسطنبول هى مقدمة للحرب الأهلية فى تركيا، والهزيمة المحتملة لأردوغان فيها ستمهد الطريق لتغيير جذرى فى سياسة البلاد».. هذا هو السيناريو الذى تتوقع به مجلة «ناشونال انتريست» الأمريكية ما يمكن أن تشهده تركيا من تطورات بعد الانتخابات المنتظرة. وتتطرق المجلة الأمريكية إلى أسباب انهيار نفوذ حزب «العدالة والتنمية» وصولا إلى خسارته رئاسة إسطنبول، وهو ما لم يحدث طيلة سيطرته على السلطة، متساءلة: «ما الذى ساهم فى هذا الاتجاه الهبوطى لحزب العدالة والتنمية، والذى كان يعتبر فى السابق الفائز دائما؟». أول أسباب تراجع «العدالة والتنمية» يتمثل فى الحرب السورية المستمرة منذ 9 سنوات، والتى وضعت ضغوطًا اقتصادية واجتماعية هائلة على تركيا، ودفعت الخلافات السياسية بين أنقرة والولايات المتحدة بشأنها، واشنطن إلى ضرب الاقتصاد التركى، عبر فرض عقوبات ورسوم خاصة على الحديد الصلب والألومنيوم التركى، وهو ما نتج عنه بجانب أسباب أخرى- هبوط الليرة التركية بشكل قياسى وغير مسبوق مقابل الدولار الأمريكى، فى أغسطس 2018، ما أشعل الأزمة الاقتصادية التى لم يتمكن «أردوغان» من التغلب عليها حتى الآن. وأدى تدفق حوالى 3.5 مليون لاجئ سورى إلى جميع أنحاء تركيا، خاصة فى إسطنبولوأنقرة، إلى هز البنية الاجتماعية التركية، وهى الهشة بالفعل، وأعرب أتراك عت غضبهم من صور لشباب سورى يحتفلون ب«رأس السنة 2019» فى وسط مدينة إسطنبول، بينما الجنود الأتراك يموتون فى سوريا، وفق ما قاله أتراك وقتها. ويرى معظم الأتراك أن حكومة حزب «العدالة والتنمية» تدعم اللاجئين السوريين ماليًا، وتمنحهم رواتب ووظائف، وجميعها مبالغ ممولة من الاتحاد الأوروبى للحكومة التركية، فى الوقت الذ يعانون هم فيه من ظروف اقتصادية صعبة للغاية. لكن لماذا تعد الانتخابات المنتظرة على رئاسة إسطنبول فى غاية الأهمية بالنسبة لمستقبل تركيا؟ تبنت تركيا نظامًا رئاسيًا ذا دورتين فى العام 2007، يمنح بموجبه الرئيس صلاحيات تنفيذية استثنائية، ويطلب منه الحصول على 50 + 1 % على الأقل، وفى العام 2018 أصبح «أردوغان» أول رئيس لتركيا فى ظل النظام الجديد. وأظهرت الانتخابات المحلية الأخيرة أن المعارضة، إذا كانت موحدة، قادرة على بناء جبهة حاسمة ضد «أردوغان»، لذا إذا فاز مرشح حزب «الشعب الجمهورى» أكرم إمام أوغلو فى الانتخابات المعادة بهامش 1 أو 2 % سيمنح كتلة معارضة «أردوغان» ميزة نفسية ويبشر بأوقات عصيبة سيعيشها الرئيس التركى فى الفترة المقبلة. ماذا بعد الانتخابات؟ يبرز سيناريوهان محتملان لانتخابات رئاسة إسطنبول المعادة، ولا يبدو أى منهما مشرقًا بالنسبة للنظام الحالى برئاسة رجب طيب أردوغان. فى السيناريو الأول يفوز مرشح «العدالة والتنمية»، بن على يلدريم، وتبدأ الكتلة المناهضة ل«أردوغان» فى انتفاضة طويلة الأمد على غرار فنزويلا، وذلك بالخروج فى مظاهرات بالشوارع، وهو ما شهدته تركيا فى احتجاجات «جيزى بارك» عام 2013، والتى استمرت شهرين ونصف الشهر، وأسفرت عن مقتل 22 شخصًا واعتقال الآلاف. ويمكن للمعارضة كذلك تنفيذ «تمرد عنيف»، وبرغم سيطرة الشرطة والجيش والمخابرات وإحاطتها ب«أردوغان» فى أعقاب محاولة الانقلاب عليه فى 15 يوليو 2016، ما يرجح فشل هذا «التمرد»، يعيش المجتمع التركى حالة من الانقسام لم يشهدها من قبل، ما يمكن أن يجعل من فوز حزب «العدالة والتنمية» برئاسة إسطنبول دافعًا لاندلاع اضطرابات اجتماعية فى البلاد، لا تسطيع الدولة السيطرة عليها. ويعزز ذلك قوة وجود روابط تشجيع فرق كرة القدم «الأولتراس»، وخاصة فريقى «فناربخشة» و«بشيكتاش»، واللذين سيساعدون على حشد الجمهور، خاصة وأنه من المعروف عنهم عدائهم للحكومة. وكانت رابطة «الأولتراس» الخاصة بفريق «بشيكتاش» واحدة من القوى الدافعة لاحتجاجات «جيزى بارك»، وليس من قبيل الصدفة أن أكرم إمام أوغلو حضر إحدى مباريات الفريق بعد 10 أيام من الانتخابات، حيث هتف مشجعو «بشيكتاش» مشجعين إياه. وفى السيناريو الثانى يفوز مرشح حزب «الشعب الجمهورى»، أكرم إمام أوغلو، وهو ما سيدفع إلى بذل جهود واسعة النطاق من قبل المعارضة للتشكيك فى «أردوغان» وشرعية حزب «العدالة والتنمية». لذا كله، سيشير يوم 23 يونيو إلى تاريخ سيظهر فيه «الإسلاميون» أو حزب «العدالة والتنمية» و«أردوغان» ما إذا كانوا يحترمون نتيجة الانتخابات إذا شهدوا خسارة متكررة أم سينقلبون على الديمقراطية مرة أخرى. كابوس اسمه «أوغلو» من المنتظر أن يتوجه نحو 10 ملايين ناخب فى إسطنبول إلى صناديق الاقتراع لانتخاب رئيس بلدية إسطنبول، ولا شك فى أن أكرم إمام أوغلو، الذى يبلغ من العمر 49 عامًا، يقف كأقوى منافس ليس فقط ل «بن على يلدريم»، عمدة حزب «العدالة والتنمية» السابق فى إسطنبول، ولكن أيضًا للرئيس التركى رجب طيب أردوغان والقوة الهائلة التى جمعها على مر السنين. وقد يكون «أوغلو» الحاجز الأخير بين «أردوغان» ونظام الحكم المطلق الذى عمل الرئيس التركى بجد لبنائه، كما أن الأول هو العمدة «الحقيقى» للمدينة، بعد أن فاز فى انتخابات 31 مارس بفارق نحو 14000 صوت، لكن انتصاره سقط بعد سلسلة من الضغوط أدت إلى إلغاء النتيجة. وأثبت «أوغلو» أنه مقاتل يتخطى حدوده ويعرض نفسه كمنقذ لتركيا من الخراب والقسوة، وكزعيم وطنى قادم، مصمم على توحيد مختلف الشرائح الاجتماعية التى عمل «أردوغان» على تقسيمها، هو ما أبرزه «أوغلو» فى مقال له ب «واشنطن بوست» يحمل عنوان «كيف فزت بالسباق للحصول على عمدة فى اسطنبول وكيف سأفوز مرة أخرى». ومما يعزز ققة «أوغلو» فى نفسه استخدامه بذكاء زيارته العائلية لساحل البحر الأسود لتنظيم مسيرات حاشدة وتجميع عشرات الآلاف فى معاقل «أردوغان» التقليدية، فى إشارة إلى أن كل شيء يتحول. وبالنسبة ل«أردوغان» وأتباعه، فإن ظهور «أوغلو» على الساحة السياسية، وظهوره خارج إسطنبول يُنظر إليه على أنه رغبة فى حكم تركيا بأكملها وليس أسطنبول فقط، وهو يشكل تهديد وجودى للرئيس وحزبه الحاكم. ويعرف «أردوغان» أن صعود إمام أوغلو يشبه ما حدث معه منذ سنوات، وأن الشخص الذى فاز فى إسطنبول فى هذه الانتخابات - كما فعل إمام أوغلو - يمكنه أن يتولى الرئاسة فى المناسبة القادمة المحتملة. ويدرك «أردوغان» والدوائر المحيطة به أن إمام اوغلو لن يتردد فى الإعلان عن كل الفساد والمناقصات العامة القذرة والمحسوبية التى انتهجها «العدالة والتنمية» فى إسطنبول لمدة 25 عامًا. رئيس مصاب ب«جنون العظمة» خرج إبراهيم كالين، المتحدث الرسمى باسم الرئيس التركى، قائلًا إنه لن تكون هناك انتخابات رئسية حتى عام 2023، وهو العام الذى تنتهى فيه ولاية «أردوغان»، ما يعكس ضعف الثقة الكبير الذى يشعر به الأخير، ودفعه لعدم الدعوة لإجراء انتخابات عامة مبكرة، خاصة فى ظل الفشل الاقتصادى الكبير. وستمهد الخسارة المحتملة ل«أردوغان» فى الانتخابات الرئاسية عام 2023 الطريق أمام تحول نموذجى هائل فى السياسة التركية، يحل فيه الائتلاف المناهض له محل حزب «العدالة والتنمية»، والذى بدأ الحكم به منذ عام 2002. ومن المحتمل أن يكون هذا الاستبدال عملية معقدة بالنسبة لتركيا، لأنه من المؤكد أن الرئيس الجديد سيعمل على كشف وإبعاد عناصر السلطة التى كونها «أردوغان» داخل الجيش والشرطة والقضاء، والكوادر الأخرى فى الدولة، وهو ما ينذر بصراعات شديدة الخطوة، وسيؤدى إلى اندلاع أعمال عنف بين طبقات المجتمع المتعارضة، بل إلى حرب أهلية شرسة. ووما يعزز ذلك معاناة الكتلة المعارضة المناهضة ل«أردوغان» من الفساد طوال حكم حزب «العدالة والتنمية» الذى استمر 17 عامًا، وكذلك عمليات التطهير التى أثرت عليهم وطالتهم، بجانب سجن بعض أعضائهم بتهمة الإرهاب. ومن ممثلى هذه الكتلة: فتح الله جولن وأنصاره، الذين يُعتقد أنهم وراء الانقلاب العسكرى الفاشل لعام 2016، والحزب الوطنى الكردى الديمقراطى، والحزب «الشعب الجمهورى»، المعارض الرئيسى ضد عناصر حزب «العدالة والتنمية». ومن المتوقع أن يحاول التصدى لهذه الكتلة «الجنرالات» المؤيدون ل«أردوغان»، وقادة الشرطة وضباط المخابرات، كما أن «أردوغان» نفسه لن يوافق بسهولة على ترك منصبه وهو المصاب ب«جنون العظمة»!.