تحارب دول العالم المتقدم الزمن من أجل تطوير أسلحتها البيولوجية.. فكل دولة تعرف أنها ستواجه هذا السلاح حتمًا، وبالتالى فعليها الاستعداد لمواجهته بسلاح مماثل وأكثر تعقيدًا، لكن تظل المعامل التى تنتج داخلها الفيروسات وغيرها من الأسلحة البيولوجية، سرية وغير معترف بوجودها بشكل رسمى، وإن كانت فى الوقت نفسه ممولة من الدولة، وذلك لكى لا تواجه تلك الدول اتهامات بخرق الاتفاقات الدولية التى تحظر إنتاج سلاح بيولوجى. مركز لوجار وبما أنها الدولة العظمى والمحركة للأحداث فى العالم، فإن الولايات المتحدة حريصة على أن يكون لديها سلاح بيولوجى قاتل يجعلها المنتصر الأكبر فى أى حرب بيولوجية تدخلها فى المستقبل. وفى يناير الماضى كشفت الصحفية الاستقصائية البلغارية «ديليانا جايتاندزهيفا» فى تقرير مفصل عن الأبحاث التى تجريها الولايات المتحدة حول الأسلحة البيولوجية فى عدد من دول العالم. وأكدت الصحفية أن الجيش الأمريكى ينتج فيروسات قاتلة وأنواعًا مختلفة من البكتيريا والسموم المميتة، وهو ما يعد خرقًا مباشرًا لاتفاق الأممالمتحدة الذى يحظر الأسلحة البيولوجية. فالولايات المتحدة وفقًا لهذه الصحفية، تعرض مئات الآلاف من الأشخاص لفيروسات خطيرة دون علمهم بذلك من أجل تجربة أسلحتها. التقرير أشار إلى أن المعامل البيولوجية تمولها «وكالة خفض التهديد الدفاعى» DTRA ضمن «برنامج المعركة البيولوجية التعاونى» الذى رصدت له وزارة الدفاع أكثر من مليارى دولار وتتركز الأبحاث أو المعامل السرية الخاصة بهذا البرنامج الدموى فى 25 دولة منها: أوكرانيا، أذربيجان، العراق، أفغانستان، باكستان، لاوس، كامبوديا، الفلبين، أوزباكستان. التقت « جايتاندزهيفا» بأحد مساعدى وزير الصحة الأمريكى فى بروكسل خلال حضورها فعاليات البرلمان الأوروبى وواجهته بما لديها من معلومات، لكنه أنكر وجود برنامج بيولوجى من الأساس وحاول مغادرة المكان سريعًا ورفض استكمال الحديث. وكشفت الصحفية، التى تشتهر بتسريب الوثائق الخاصة بتهريب أسلحة، أن الولايات المتحدة تستخدم «مركز لوجار» فى «جورجيا» لإجراء الأبحاث الخاصة بالأسلحة البيولوجية. ويقع هذا المركز على بعد 17 كيلومترًا من القاعدة الجوية الأمريكية فى العاصمة «تبليسى» . ويقوم على إجراء الأبحاث هناك مجموعة من البيولوجيين التابعين لوحدة البحث الطبى التابعة للجيش الأمريكى. وقد منحت «جورجيا» هذا المركز الحصانة الدبلوماسية بموجب اتفاق مشترك عام 2012، بحيث يمنع دخوله لغير الأمريكيين، بل الحاصلين منهم على تصريح لدخول المعمل البيولوجى السرى. والأكثر من ذلك أنه تم منح العاملين بالمركز الحصانة الدبلوماسية بحيث لا يجوز مساءلتهم حول طبيعة عملهم أو تفتيش أى حقائب فى الموانئ والمطارات. ولم تكتف وزارة الدفاع الأمريكية بالحصانة الدبلوماسية، بل وفرت المزيد من السرية من خلال التعاقد مع شركات خاصة لتوفير المواد المستخدمة داخل المعمل، وبالتالى لن يستطيع الكونجرس محاسبة هذه الشركات يومًا لأنها خارج نطاق اختصاصه، وفى الوقت نفسه يمكن للبنتاجون الادعاء بأنه لا يعرف التفاصيل لأن الشركات الخاصة هى المسئولة عن المعمل. العاملون بالشركات الخاصة أيضًا حصلوا على حصانة دبلوماسية، وبالتالى فهم يقومون بعملهم السرى تحت الغطاء الدبلوماسى دون مساءلتهم من سلطات الدولة التى يوجد المعمل على أرضها. أما الشركات الثلاث التى تعمل فى هذا المركز فهى «سى. إتش.2 إم هيل»، «باتلى» و«ميتابيوتا»، تقوم الشركات الثلاث إلى جانب البنتاجون بأبحاث داخل المركز لصالح «وكالة الاستخبارات المركزية» CIA وغيرها من الجهات الأمريكية. وأكد التقرير الذى أعدته الصحفية البلغارية أن البنتاجون أجرى تجارب حشرية أو تجارب تعتمد على الحشرات، حيث استخدموا حشرات مثل البعوض والذباب فى جورجيا. وأشار التقرير إلى أنه تم تجهيز مركز لوجار بمعمل حشرات عام 2014 وبدأوا تجميع أنواع من الحشرات المعروفة ب«ساند فلاى» أو «ذبابة الرمل» وغيرها من الأنواع، وذلك فى إطار عدد من المشروعات منها مشروع «رفع الوعى بذبابة الرمل فى جورجيا والقوقاز» ومشروع «أعمال رصد ومراقبة لأمراض الحمى الشديدة». ويؤكد التقرير أن هذه الأبحاث كانت السبب وراء انتشار الحشرات اللادغة فى العاصمة الجورجية «تبليسى» منذ عام 2015، كما ظهرت حشرات مماثلة لتلك التى اجتاحت جورجيا فى «داجستان» الروسية. كما كشفت الصحفية البلغارية عن عدد من المشروعات البحثية البيولوجية التى قام بها الجيش الأمريكى ومنها «بيج ايتش» و«عملية بيج باز» و«عملية بلويثر» وغيرها من الأبحاث البيولوجية العسكرية التى استخدمات فيها حشرات استوائية فى «جورجيا». جزيرة بلام لا يزيد حجم الجزيرة عن ثلاثة أميال طوليًا وميل واحد عرض، واشترتها الولايات المتحدةالأمريكية عام 1899 لتتحول فيما بعد إلى مركز لقاعدة «فورت تيرى» العسكرية ثم توقف عملها بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية. أنشأت وزارة الزراعة الأمريكية على أرض الجزيرة «مركز أمراض الحيوانات» PIADC عام 1954، وقام المركز بأبحاث حول الأمراض التى تحملها الحيوانات وطوروا أمصالاً لهذه الأمراض وظلت الأبحاث ونتائجها سرًا لم يكشف عنه حتى اليوم، بل إن الجزيرة أصبحت محاطة بسرية تشير الشكوك والتساؤلات، حيث منع أى شخص من الاقتراب منها سواء برًا أو بحرًا. وازدادت الشكوك بعدما استولت وزارة الداخلية الأمريكية على الجزيرة عام 2003 لتتحول بعدها إلى «معمل الدفاع البيولوجى والزراعى الوطنى». وكان العلماء والعاملون بالمعمل ينتقلون منه وإليه داخل سيارات حكومية وتحت حراسة مشددة. أما أسباب الشكوك التى هى أقرب إلى الحقيقة، لكن دون إثبات فيعتبر أهمها حادثة انتشار وباء غامض فى بلدة صغيرة قريبة من الجزيرة فى السبعينيات من القرن الماضى، وكانت أعراض المرض هى الشعور بالتعب والإرهاق وآلام العظام وعدم القدرة على التركيز وأحيانًًا الشلل. احتار الأطباء فى هذا المرض وسبب انتشاره فى هذه البلدة دون غيرها. لكن بعد إجراء العديد من الأبحاث والتحاليل، اكتشفوا أن المرض الغامض هو «مرض اللايم» ويتسبب فيه نوع من البكتريا عن طريق الحيوانات، كما أثبتت التحاليل أن البكتيريا معقدة للغاية ولا تشبه أى بكتيريا أخرى وأنها قد تسبب شيزوفرينيا واضطرابات عقلية خطيرة. كل هذه التعقيدات وظهورها فجأة فى مكان يبعد عن المعمل المحاط بالسرية ب 13 ميلاً فقط جعل أصابع الاتهام تشير إلى الجزيرة الغامضة. مبنى «يكاترينبرج» فى كتابه «تاريخ البرنامج السوفيتى للأسلحة النووية»، يؤكد البروفيسور «رايموند زيلينسكاس» الخبير فى السلاح البيولوجى والكيميائى أنه رغم اعتراف الرئيس الروسى السابق «بوريس يلتسين» بامتلاك بلاده للأسلحة البيولوجية بالمخالفة لاتفاق الأسلحة البيولوجية والسامة، فإن زيلينيسكاس تفاجأ خلال إعداد كتابه بحجم هذا البرنامج والآلاف الذين عملوا به على مر السنوات. وفى عام 2012 اعترف وزير الدفاع الروسى فى لقاء مع الرئيس بوتين بأن الوزارة تهتم بشكل كبير بتطوير أسلحة تعتمد على الإشعاعات والموجات الجيوفيزيائية والجينات إلى غير ذلك، وبعدها تم تجديد المبانى التابعة لقوات الدفاع الإشعاعى والكيميائى والبيولوجى وتزويدها بأحدث الأجهزة والمعدات، وفى العام نفسه أعلن الرئيس الروسى «بوتين» أن بلاده تطور أنواعًا مبتكرة من الأسلحة لمواجهة التطور التكنولوجى الغربى مشيرًا إلى أن جيوش المستقبل ستحتاج إلى أسلحة تعتمد على علم الجينات وما يعرف بعلم «النفسية الفيزيائية» إلى غير ذلك من العلوم. ووصف بوتين هذه الأسلحة، حينها بأنها ستكون لها قدرات السلاح النووى إلا أنها ستكون مقبولة بشكل أكبر فى العقيدة العسكرية والسياسية. ولا تزال كلمات بوتين هذه مبهمة، إذ لا يعرف أحد حتى يومنا هذا ما نوع السلاح الجينى الذى يمكن أن يتفق مع الاتفاقات الدولية التى تحظر الحرب البيولوجية والكيميائية، لكن المؤكد أن كلمات بوتين هذه أكدت الشكوك حول البرنامج البيولوجى الروسى المتقدم. وفى الوقت الذى تؤكد التقارير الاستخباراتية شروع موسكو فى تطوير برنامجها البيولوجى بشكل لافت، تؤكد الدولة أن الأبحاث التى تتم داخل معاملها دفاعية وقانونية تمامًا، وهو ما دفع خبير الأسلحة البيولوجية «زيلينسكاس» إلى إصدار كتاب جديد مؤخرًا باسم «الأمن البيولوجى فى روسيا تحت حكم بوتين»، ويتهم الكتاب الحكومة الروسية باستخدام الفيروسات التى اتهمت الولايات المتحدةالأمريكية بنشرها مثل «إيبولا» و«زيكا» كذريعة للتمادى فى برنامجها البيولوجى بحجة الدفاع عن نفسها ومواجهة البرنامج البيولوجى الأمريكى. وترفض روسيا منذ عام 2012 دخول مفتشين إلى معاملها البحثية للتحقق من عدم وجود سلاح بيولوجى والتأكد من تدميرها ترسانة السلاح البيولوجى القاتل التى أنتجها العلماء الروس التابعون لما كان يعرف ب«الجيش الأحمر» فى الفترة التى سبقت تفكيك «الاتحاد السوفيتى» السابق. وبالعودة إلى فترة الحرب الباردة، نجد العديد من التقارير التى تؤكد إنفاق القادة السوفييت مبالغ طائلة من أجل تطوير أسلحة تعتمد على 11 نوعًا من الجينات المسببة للأمراض مثل «الانثراكس» و«الجدرى» الطاعون فضلاً عن إجراء تجارب على سلالات معدلة وراثيًا. لكن رغم نفى موسكو فإن الدراسة الدقيقة التى أجراها زيلينسكاس لإعداد كتابه الأخير وتوثيقه بصور من عقود ومستندات تثبت امتلاك روسيا لمعامل أبحاث بيولوجية متقدمة، كما يتضمن الكتاب صورًا بالأقمار الصناعية تشير إلى حجم التوسع الذى حظيت به مبانى وزارة الدفاع الأربعة التى كانت تضم المعامل البيولوجية قبل تفكك الاتحاد السوفيتى إلى جانب وجود عدد من المراكز البحثية فى مناطق متفرقة داخل الأراضى الروسية تستخدم كمعامل أبحاث بيولوجية وهى مراكز تابعة للدولة. ففى مبنى «يكاترينبرج» الذى شهد انتشار فيروس «إنثراكس» عن طريق الخطأ عام 1979، تظهر صور الأقمار الصناعية وجود عدد كبير من المبانى الجديدة كما شهدت المبانى القديمة تطورًا كبيرًا وتم تجديدها وهى المبانى التى كانت تستخدم فى الماضى كمصانع لإنتاج البكتيريا المسببة ل«الانثراكس». الوحدة 731 ولكن روسيا والولايات المتحدة ليستا وحدهما اللتين تهتمان بالسلاح البيولوجى، فقد اهتمت اليابان بهذا السلاح منذ ثلاثينيات القرن الماضى، حيث أجرت تجارب كثيرة تضمنت تجارب فى منتهى القسوة والوحشية منها تجميد البشر أحياء وتشريحهم إلى جانب تجارب وضع البشر فى غرف الضغط المرتفع حتى تنفجر عيونهم. كل ذلك كان يتم فى مكان عرف ب«الوحدة 731» والتى كانت تعمل سرًا تحت غطاء مصنع أخشاب فى الفترة ما بين عامى 1953 و1945، كما أجرت اليابان تجارب فيروسية فى هذه الوحدة المرعبة منها حقن البشر بفيروس «إنثراكس» أو «مرض الزهرى» وهو مرض تناسلى معدٍ، وقام العاملون بالوحدة أيضًا بحقن براغيث بالطاعون ثم نشروها فى مدن صينية لتجربتها، مما أدى موت أعداد كبيرة متأثرين بمرض الطاعون، وأنشأت اليابان وحدات مماثلة فى عدد من الدول منها سنغافورة، وعندما تم إغلاق الوحدة 731 منح الأمريكيون مسئولى الوحدة حصانة كاملة فى مقابل إعطائهم جميع النتائح التى توصلت إليها أبحاثهم وتجاربهم المميتة. بورتون داون المعمل البريطانى الأكثر سرية الذى كان المسئولون عنه يستخدمون الجنود كفئران تجارب، إذ قاموا بحقنهم بمادة «ال. سى .دى» التى تشبه عقاقير الهلوسة، وذلك دون موافقة الجنود أو حتى علمهم بذلك. المصنع رقم 5 أبدت كوريا الشمالية اهتمامًا بتطوير أسلحتها البيولوجية مؤخرًا، وطورت أمراض «الجمرة الخبيثة، والتسمم، والكوليرا، والتيفويد، والحمى الصفراء، الحمة النزفية الكورية، الدوسنتاريا، والتيفوس، والجدرى، داء البروسلات (الحمى المتموجة، أو الحمى المالطية)، ستافيلوكوكس أوريس (بكتيريا المكورات العنقودية الذهبية)، والطاعون. وكانت كوريا الجنوبية قد أكدت أن جارتها الشمالية تمتلك 3 مصانع للأسلحة البيولوجية، بالإضافة إلى 7 مراكز بحثية وأشهر هذه المنشآت البيولوجية «المعهد المركزى للبحوث البيولوجية» وهو وحدة الدفاع البيولوجى العسكرية ومقره «بيونج يانج» و«المصنع رقم 5» المعروف باسم «مصنع 25 فبراير» بمدينة «تشونج-جو».