العقلاء الحقيقيون موجودون ونادوا بدولة مدنية تخدم تعدد العقائد في مدينة البسطاء التي يسكنها أناس طيبون، سكينة وهدوء وشيء من الكسل.. في الليل جاء مجهولون وحفروا حفرة كبيرة علي أطراف المدينة. وفي الصباح بدأت حوادث السقوط في الحفرة.. وعلي مدي عدة أيام كان الطيبون وأولادهم الصغار يقعون في الحفرة بالعشرات كل يوم.. وبعد الهدوء والاستقرار اللذين كانت تنعم بهما المدينة، حتي كان جيرانهم يحسدونهم، بدأت الاضطرابات والمشاجرات.. هذا يتهم جاره بأنه حفر تلك الحفرة ليقع فيها هو وأفراد عائلته.. وآخر يظن أن صديقه قد دفعه ليسقط في الحفرة.. ولم يعد هناك حديث في المدينة سوي الحفرة حتي إن الإعلام لم يكن يتحدث إلا عن جرحاها وقتلاها ومن دفع من ليسقط فيها. صار من الضروري وضع حد لتلك الفتنة.. اجتمع عقلاء المدينة لاقتراح حلول لإنهاء المشكلة المتفاقمة.. كانت هذه هي المقترحات التي تم استعراضها : الاقتراح الأول: نضع سيارة إسعاف بجانب الحفرة حتي إذا ما وقع أحد فيها ينتشلونه ثم يأخذونه إلي المستشفي داخل المدينة ليتم علاجه بسرعة!! الاقتراح الثاني : وقد تحفظ الذي اقترحه علي الاقتراح الأول لأن المصاب قد يتوفي في سيارة الإسعاف قبل أن يصل إلي المستشفي..وبالتالي كان الاقتراح هو إقامة مستشفي بجانب الحفرة حتي يتم إنقاذ المصابين بسرعة!! الاقتراح الثالث: وقد تحفظ صاحبه علي الاقتراح الثاني لأن تكلفة بناء المستشفي عالية، كما أن الوقت الذي سيستغرقه بناؤه طويل مما يكلف مدينة البسطاء أرواحا كثيرة.. فجاء الاقتراح بأن تقوم السلطات في بلد البسطاء بنقل الحفرة من مكانها البعيد علي أطراف المدينة إلي مكان قريب جدا جدا من المستشفي في وسط المدينة حتي يقع الناس فيخرجونهم بسرعة ويضعونهم في المستشفي!! هل هذا هزل؟ هل هي مجرد قصة كوميدية؟ هل هؤلاء هم عقلاء مدينة البسطاء؟ أم أن هناك علي أرض الواقع من يقوم بمثل هذه التصرفات ويهمل العقلاء الحقيقيين واقتراحاتهم بردم الحفرة من أساسها؟ نحن لا نعالج الفتنة بوأدها وطمر حفرتها.. بل نقيم سيارات إسعاف بجانب كل مشكلة طائفية تحدث.. والضمادات هي غالبا مصافحات بين كبار العائلتين من رجال الدين ثم يتم إسعاف المصابين، والتعتيم علي الأسباب والتقصير وكل ما يتعلق بالحفرة.. أو إذا كانت المشكلة الطائفية أكبر حجما ينتقل المستشفي كله إلي مكان الحادث بأعلام البلاد وساساتها.. وتنهال الوعود بحل المشكلة ويتم صرف مبالغ مالية لاحتواء الغضب.. وحالما تهدأ المشكلة ينتهي تناولها سياسيا وأمنيا وإعلاميا. من الذي قام بزرع الفتنة؟ من الذي يفجر نفسه؟ ما الجهات التي تسعي وراء إشعال مصر؟ لماذا يفعلون بنا هكذا؟ كلها أسئلة متوسطة الأهمية إذا ما قورنت بأسئلة: هل هناك مناخ يسمح بزرع الفتنة؟ هل هناك قانون يمنع حدوثها؟ هل هناك وعي ثقافي وتعليمي يحاربها؟ هل يتعامل الإعلام مع الداعين للفتنة بشكل مسئول؟ هل يتم تنفيذ القانون علي جميع فئات الشعب بعدل مطلق غير منقوص بسبب الديانة أو الانتماء السياسي أو الطبقي أو غيره؟ وأخيراً السؤال الأهم: هل نحيا في دولة دينية أم مدنية أم علمانية أم طائفية أم غير ذلك؟ العقلاء موجودون العقلاء الحقيقيون موجودون في وطننا ومنهم من بح صوته في وسائل الإعلام ودوائر الرأي المختلفة.. ولكن حلا واحدا مما دعوا إليه لم يدخل حيز التنفيذ ولا حتي المناقشة الموضوعية للبدء في تفعيله.. وتختلط أصوات العقلاء الحقيقيين بأصوات من يظن أنهم حكماء ولكنهم من أمثال مجلس مدينة البسطاء.. فكثيرون يضعون حلولا من أمثلة : فليكن المسيحيون والمسلمون أصدقاء.. فلندع كل واحد في دينه إلي قبول الآخر وذلك من باب التسامح. العقلاء الحقيقيون نادوا مرارا وتكرارا بالمواطنة التي صارت كلمة بغيضة عند كثيرين بسبب تكرارها الذي لم يؤسس علي فهم مضمونها.. والدليل أن يكون في أحد مناهج مادة الدراسات الاجتماعية وحدة عن المواطنة عنوانها: (قيمنا الإسلامية والمواطنة الصالحة).. مفهوم المواطنة لا يرتبط بالأديان بل يرتبط بمصر.. المواطنة التي نمل من تكرار لفظها هي أن تكون مصريا.. أنت مواطن مصري ولدت علي هذه الأرض وتحمل الجنسية المصرية.. أنت لك بطاقة رقم قومي تقول أنك مصري بغض النظر عما إذا كانت فيها خانة الديانة أم أنك أصلا لا تؤمن بأية ديانة.. أنت مصري أيا كان نوعك رجلا كنت أو امرأة وأيا كان لونك وأيا كانت لهجتك.. سيناوي أو نوبي.. أنت مواطن مصري.. العقلاء الحقيقيون نادوا بدولة مدنية.. وهو المفهوم الثاني الذي لا يعد واضحا للعامة.. الدولة المدنية ليست ضد الأديان، بل هي تخدم تعدد العقائد.. الدولة المدنية لا تهاجم الأديان، بل تحترم كل مواطن وتحترم أفكاره وعقائده وتضمن له حرية ممارسة طقوسه. هل هذا ما يحدث في بلدنا؟ هل نقيم ما يدعو إليه عقلاؤنا؟ حضن الوطن الوطن كلمة غابت عن أحاديث مجالس تقديم الحلول.. ولكنها ظهرت في الأغاني.. الوطن هو مصر التي كتب فيها الشعراء قصائد كثيرة، وتغني في حبها المصريون منذ القديم وحتي الآن.. الوطن الذي يتغنون به هو الأم التي تعتني بأبنائها جميعا دون تفرقة.. الضعيف حتي يقوي، والصغير حتي يكبر، والمريض حتي يشفي، والحزين حتي يتعزي.. الوطن هو الذي يضع القانون ويقوم بتنفيذه دون تمييز أيضا.. هو يعاقب أبناءه من المخربين والظالمين، ويؤازر منهم من يبدع ويتفوق وينتج وينمّي. الوطن ليس هو الحكومة الحالية ولا الحكومات السابقة ولا اللاحقة.. الوطن لا يرتبط بأشخاص بعينهم ولا يقف عند أحزاب ولا جماعات، ولا تهزه أي أحداث ما لم تكن موجهة إلي أبنائه.. الوطن لا يتمثل في طوائف بل مؤسسات.. ويتولي فيه القانون فوق الجميع ودون تمييز.. ويأمن فيه المواطنون علي حياتهم وممتلكاتهم كلهم سواسية.. وإذا غابت تلك المفاهيم أو بعضها فأين الوطن؟ ضد التمييز - قانون واحد سيعيد للوطن هيبته ومحبته في قلوب مواطنيه.. وهو يشمل كل ما يعطي لكل مواطن مصري حقوقه ويضمن حرياته.. هو ليس قانونا ضد التمييز الديني فقط، بل ضد أي تمييز يجعل الرجل أفضل من المرأة.. أو لأبناء طبقة ما حقوقا أكثر من غيرهم. - مع تطبيق هذا القانون سيتم حذف أي مواد دراسية تحض علي أي نوع من التمييز.. وأثق أن القائمين علي التعليم سيدركون تماما المطلوب منهم حتي لو لم تقم الوزارة بتنظيم دورات تدريبية لهم بمجرد أن يصدر القانون وتعلن الجهات التنفيذية تفعيله وجديته. مع تطبيق قانون ضد التمييز سيعرف كل من يمسك بالميكروفون في الجامعة، والمسجد، والكنيسة، والندوات، والإعلام أن هناك ما يمنعهم من أي شبهة أقوال يعاقب عليها هذا القانون.. وسيدركون هم أيضا ما ينبغي أن يقال وما ينبغي ألا يقال بغض النظر عما في صدورهم من أفكار.. وينطبق ما سبق علي الذين يكتبون أيضا.. هذا القانون سيجعل كل مواطن الحق في إعلان أفكاره، وإقامة شعائره، والتعبير عن ذاته مادام لا ينتزع من حريات الآخرين.. سوف لا تشتكي طائفة من أن القانون يطبق علي أفرادها دون غيرهم.. ولن يضطر أحد لمخالفة القانون لأنه لا يمنح حقوقه. فرصة ذهبية إنها فرصة ذهبية لم نعاصرها منذ أجيال.. فرصة يمد فيها الأخ يده بكل صدق لأخيه - أخجل من ذكر كلمة الأخ المسلم لأخيه المسيحي.. فرصة يتوحد فيها الشعور بالحزن الكريم والخطر المحدق.. فرصة يتم فيها احتواء الغضب وتوجيه الشعور الوطني نحو الوطن.. فرصة يظهر فيها صوت العقلاء فيستمع إليه أغلبية المصريين.. لابد من الاستفادة من هذه الفرصة وبسرعة لإصدار هذا القانون الذي ستوافق عليه الأغلبية إذا ما تم الاستفتاء عليه من جموع الشعب المصري.