علينا أن نعترف بأننا خدعنا بمعسول الكلام الفارغ الذي ردده الرئيس الأمريكي «باراك أوباما» في جامعة القاهرة، فالوقت كشفه علي حقيقته، فما هو إلا بوش «ديمقراطي»، ينفذ أجندة «الفوضي الخلاقة» الجمهورية لكن بأسلوب حزبه،وهو ما أطلق عليه «الفوضي الشجاعة»، وما حليفته هي الأخري «هيلاري كلينتون» إلا كونداليزا «ديمقراطية»، فالكل.. ديمقراطيون وجمهوريون.. يريدونها منطقة فوضي وخراب وحروب وقلاقل ويأس وفقر، لكن كل له طريقته، وبالطبع الأنظمة العربية متورطة مع هذه الأجندات وكذلك معارضاتها بجنون السلطة وبرانويا الخلاف خاصة لو كان مدفوع الأجر مقدماً! ففي الوقت الذي وقفنا فيه كثيراً أمام الانتقادات التي وجهتها «هيلاري» للدول العربية في بعض رسائلها المستفزة، فوجئنا أن الرئيس التونسي المخلوع «زين العابدين بن علي» يضع يده علي البطحة التي علي رأسه، وفر هارباً دون أن يدرك إلي أين يذهب، وتهرب منه الجميع كأنه مرض معدٍ. وتزامنت هذه الرسائل الكلينتونية التي صادفت مصداقية هائلة بعد سقوط «بن علي» مع العديد من التقييمات إلي مطلقها وزيرة الخارجية الأمريكية للدول والعواصم العربية في الفترة الأخيرة، وكأنها تشغل نفسها بذلك بعد فشلها الذريع ورئيسها في إحياء عملية السلام بأوامر من اللوبي اليهودي الذي لا يستطيعان مواجهته، فذهبت هيلاري لتنتقد الدول العربية. «هيلاري» ذهبت بعيداً في هذه المرة، ويبدو أن الأزمة التونسية المتصاعدة، والمعضلة اللبنانية المتجددة، والكارثة السودانية المتبلورة شغلت القادة عن الرد عليها حتي هؤلاء الوزراء الذين كانوا حاضرين معها بمنتدي المستقبل، وتجاهلت «هيلاري» مطالب العرب بإخلاء المنطقة من أسلحة الدمار الشامل وألهتهم بالحديث عن الإصلاح السياسي ومكافحة الفساد ومعالجة البطالة، تلك الأشباح التي أصبحت تقلق بعض الأنظمة وتلعب بها أمريكا ككروت إرهاب ، داعية الشعوب للخروج علي حكامهم واصفة ذلك هي ورئيسها بأنها شجاعة يجب أن نساندها، وكأنهم يتمنون أن تنتقل العدوي التونسية بسلبياتها غير عابئين بإيجابياتها إلي العواصم العربية الأخري، خاصة أنهم يتصورون أن البيئة خصبة ومتوافرة في بعض العواصم. «فأوباما» الذي لم يتكلم منذ شهور بعد فشله في إحياء عملية السلام أمام الضغوط اليهودية وعودة «البعبع» الجمهوري له في الكونجرس والشيوخ، سمعنا مرة أخري صوته، وهو يتحدث عن الفوضي علي أنها شجاعة، وعندما انتقد وكشفت أوراقه أضطر للعودة ودعوة التوانسة إلي إعادة النظام لبلادهم، حتي لا يكون اللعب علي المكشوف بهذه الطريقة. أوباما صمت طيلة قرابة الشهر وهو يري عشرات الأبرياء من التوانسة يتساقطون برصاص الشرطة الحي، ولا يجد ما يقوله، حتي تحولت الأمور إلي فوضي وهرب الرئيس المخلوع، فخرج عن صمته مادحا ما أسماه بالكرامة و الشجاعة التونسية التي اتسم بها الشباب الذين خرجوا في المظاهرات والذين ضحوا من أجل دولتهم، وفي مقدمتهم وفق رؤيته محمد البوعزيزي، لكنه لم يشرح ما هي الكرامة و الشجاعة في أن يحرق الإنسان نفسه، خاصة أن البوعزيزي لم يكن يفعل ذلك من أجل بلده أو مصلحة عامة ولكنه اعتراض علي شأن خاص، ورغم أن موقف أوباما لم يختلف كثيرا عن التردد والسكوت والترقب الفرنسي، إلاأنه جذب الأنظار بعد الإصرار علي التحريض للفوضي، حتي إن هيلاري اضطرت بعد ذلك بأيام إلي التأكيد علي أن أمريكا لا تتدخل في الشئون التونسية، وتعتبر تحديد المستقبل شأنا خاصا بالشعب التونسي. وتناست هيلاري أنها كانت قد شنت هجوما علي الدول العربية مهددة إياها بالسقوط في هوة الاضطرابات والفوضي والقلاقل بحجة أن انتشار التطرف والتشدد، ولم تذكر الإسلامي بشكل مباشر لكنها كانت تقصده، ونوعت هذه المرة في التهديدات ووسعت رقعتها بالحديث حول مجموعات الفقر واليأس لا الإرهاب فقط التي أصبحت تشكل خريطة التغيرات السياسية في المنطقة العربية، رغم أنه لم يكن في التوقعات الأمريكية القريبة أن تشارك هذه المجموعات كبرت أو صغرت في هذه التشكيلات، وكان الحديث قاصرا علي الضغوط الخارجية والاضطرابات والقلاقل التي تثيرها المخططات المعتادة، والأنشطة الإرهابية في المنطقة. بالطبع هناك أصوات في دول تستمتع بهذه الانتقادات الأمريكية، وتجد فيها قوة دفع معنوية وسياسية للاستقواء علي أنظمتها محققة إنجازات كارتونية. يلفت النظر في هذا السياق ما فعله «محمود الخضيري» الذي تباهي بتحريض مسئولي السفارة الأمريكيةبالقاهرة والإسكندرية ضد مصر، والذين من ناحيتهم وجدوها فرصة لتنفيذ أجندتهم بدعوته وغيره من قوي المعارضة بالنزول للشارع علي الطريقة التونسية، وكما قال في تصريحات نشرتها «روزاليوسف» أنه في هذا الوقت تكون المساندة الأمريكية جاهزة علي شاكلة تصريحات ضبط النفس والعنف المبالغ فيه واحترام خيارات الشعوب، التي لا يعرفون عنها إلا المشاهد الفوضوية التي تسليهم علي الفضائيات العربية. لكن أجواء القلق وبيئة الفوضي و«البوعزيزم» التي انتشرت بأسلوبها البوذي في العالم العربي وحتي فرنسا، هي أفضل توقيت لمخططات الأمريكان. «هيلاري» وجدت في نفسها إجادة للعب دور المتحدث باسم الشعب العربي خاصة بعد انسجامها في برنامج «نواعم» الذي روجت فيه لأجندات دينية منها تشجيع النقاب، وقسمت الشعوب العربية بين طبقة خاصة لا حديث عنها، وهي الخليجية طبعاً، وطبقة دونية ومنها اليمن التي كانت قد زارتها بحجة التعاون الثنائي ضد القاعدة، لكنها لم تنس أن تجتمع مع قوي المعارضة وتناقشهم في تصوراتهم للمستقبل . وقالت إننا مع الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان وضد التطرف والتشدد.. كلام معسول بغايات ظاهرها الخير وباطنها الشر، خاصة أنها دعت لتحسين حياة الناس حتي لا يسد الإرهاب الفراغ. ولم تمض سوي أيام، وهذه الوزيرة التي كانت تلاطف مذيعات «نواعم» العربيات وتتحدث عن هموم الشعوب العربية ،إلا وتحدثت بالإسرائيلي مؤكدة أن الولاياتالمتحدة ترفض أي مساعٍ فلسطينية في مجلس الأمن حتي ولو كانت مشروعاً ضد الاستيطان الإسرائيلي، متجاهلة أن هذا الاستفزاز التاريخي أحد أسباب إحباط ومعاناة الأجيال العربية علي مر العقود الماضية، وخنق أحلام الكبار والصغار، وتتزايد مجموعات اليأس والفقر التي تهددنا بها حتي ننفذ ما وصفته بالإصلاحات السياسية والاقتصادية.