يقولون إن أهل الغرب فكروا قبل غيرهم فى مشروع توصيل البحرين الأحمر والمتوسط، بهدف تعميم الحضارة بعد الثورة الصناعية التى شهدتها أوروبا، وهذا خطأ شائع لا دليل عليه، والصحيح الذى سجله التاريخ أن مصر القديمة شقت أول قناة صناعية على وجه الأرض.. قضية الصراع بين الشرق والغرب قديمة تمتد إلى العهد الذى وجد الغرب سبيله إلى خزائن وخيرات الشرق، فهى وثيقة الصلة بجميع الحروب العالمية التى نشبت وما قبلها، وكذلك ترتبط بالتطور فى ميادين السياسة والاقتصاد. مشروع قناة السويس يعد مؤامرة اشتركت فيها دول أوروبا الكبيرة منذ القدم، وترقى أن تكون أكبر وأخطر مؤامرة عرفها التاريخ، أرادوا بها احتلال مصر بمعرفة دول أوروبية تتكتل وراءها دول القارة وتقوم الدولة المحتلة بشق القناة فتضمن لنفسها وزميلاتها السيطرة التامة على خزائن الثروة فى آسيا وأفريقيا، وقد تحقق الحلم. قناة السويس ومشكلاتها المعاصرة مجموعة مجلدات فى 4 أجزاء تستعرض تاريخ القناة وأصول القضايا وقصة الصراع الغربى للسيطرة على مقدرات الشرق سجلها الدكتور مصطفى الحفناوى وحصل على درجة الدكتوراه من جامعات إنجلترا المجلد الأول للدراسة القيمة صدر عام .1952 يقول الباحث: تدويل منطقة قناة السويس وانتزاعها من جسم مصر بالدهاء وسعة الحيلة تارة، والبطش والجبروت تارة أخرى كان السبيل الاستعمارى للانقضاض على الشرق الأوسط. المركز القانونى للقناة مر بمرحلتين متعاقبتين الأولى بدأت فى 30 نوفمبر 1854 تاريخ عقد الامتياز الأول، إلى 29 أكتوبر 1888 توقيع معاهدة القسطنطينية وفى هذه المدة وقع خديو مصر وقتها عقدين سنة 1856 وسنة ,1866 ولم يصادق الباب العالى إلا على العقد الأخير، تضمن العقدان أن القناة طريق حر للملاحة الدولية لإضفاء صفة عالمية عليها ونص صراحة على أنها جزء محايد تفتح لجميع السفن التجارية من غير تمييز ولا استثناء لشخص أو جنسية. وقبل الاستطراد فى المشكلات التى واجهت القناة لابد من إعطاء حق السبق لأهله وناسه رغم أنه ليس معروفا على وجه اليقين اسم الفرعون الذى شق القناة، فثقاة المؤرخين مختلفون، بعضهم ينسبها إلى أحد ملوك الأسرة السادسة والعشرين اسمه «نيقوس» عام 630 ق.م، ويقول بذلك هيرودوت، ولكن أرسطو واسترابون ومعهما نفر من مؤرخى الإغريق يزعمون أن «سيزوستريس» هو صاحب المشروع، فى حين أن مؤرخى البطالمة يعزون فضل القناة إلى بطليموس الثانى، ويروون عن كليوباترا أنها حاولت الفرار بأسطولها إلى الهند بعد واقعة «أكتيوم» عام 31 ق.م حيث اضطرت إلى تطهير القناة، وهناك رواة يرجعون تاريخ القناة إلى أيام سيتى الأول وولده رمسيس الثانى. وآراء أخرى كلها تدور فى فلك القدماء المصريين وفكرة توصيل البحرين، وقد نشطت القناة حينا وتوقفت حينا آخر إلى أن جددها عمرو بن العاص تنفيذا لمشيئة أمير المؤمنين عمر بن الخطاب بعد فتح العرب لمصر عام 639م. مما تقدم يبدو جليا أن مصر سبقت غيرها إلى شق القناة وتسيير الملاحة إلى البحر الأحمر. ويستعرض الدكتور مصطفى الحفناوى كيف استهلت أوروبا القرن الرابع عشر بمزيد من الاهتمام وجهته إلى مصر رغبة فى الظفر بها وبترابها وجمال موقعها واستمرار سيل الأوروبيين فى التدفق عليها طوال القرن الثالث عشر وبداية القرن الرابع عشر، وفى أواخر القرن الخامس عشر عام 1498 ظهر أمر قلب الأوضاع رأسا على عقب وهو طواف فاسكو دى جاما حول طريق رأس الرجاء، فبدأ بين شعوب الغرب صراع استمر زهاء أربعة قرون، البعض حاول أن ينتزع طريق رأس الرجاء من أيدى البرتغاليين، وآخرون سعوا إلى الوصول إلى الشرق من طريق أقصر إذا ما حفرت قناة فى برزخ السويس. وضعت فرنسا فى زمن الملكية أيام لويس الرابع عشر عددا من المشروعات فتارة رأت إنشاء طريق برى يسير فى برزخ السويس، وأخرى شق قناة بين البحرين، وساسة جنحوا إلى الحيلة وفكروا فى معاهدات تمكن فرنسا من الأمر، وآخرون طالبوا بالعنف والعدوان، وانعقد الإجماع على أن مصر هى خير الطرق المؤدية إلى الهند وكنوزها وقتها يمكن استغلال بلاد الشرق الأقصى واجتياحها. ليبنتز فيلسوف ألمانى شاب أصدر وثيقته الاستعمارية الشهيرة فى 15 مارس عام 1672 كشفت بجلاء نوايا الأوروبيين وخططهم فى ذلك الحين وطلب من الملك لويس الرابع عشر غزو مصر لأنه لا يوجد بين أجزاء الأرمن جميعها بلد يمكن السيطرة منه على العالم كله وعلى بحار الدنيا بأسرها غير مصر وقال إنها تستطيع أن تلعب هذا الدور لسهولة استيعابها لعدد كبير من السكان وخصب أرضها منعدم المثال، وأشار إلى أن مصر كانت فى ماضى الأيام مهدا للعلوم ومحرابا لنعمة الله ولكنها اليوم معقل للديانة المحمدية، وأخذ يعدد المزايا التى تتمتع بها مصر. كشف النقاب عن الوجه الغادر للاستعمار الأوروبى.. إذن هى حرب صليبية مقدسة يدعون لها من أجل تدويل مسيحى مسيحى للقناة، وتحقيق الحلم القديم الذى تغنى به رجال الحروب الصليبية وظلت السياسة العالمية متأثرة بتلك الأفكار التى تعكر صفو السلام بين البشر، وتشيع الفرقة وتوقد نار الفتنة، وهو أسلوب لا يستقيم مع ميثاق سان فرانسيسكو ووثيقة حقوق الإنسان، جاهدت مصر أخطار المنافسات المؤدية للحروب حيث نصب الغرب نفسه وصيا على المنطقة. ويذكر فى رسالة الدكتوراه التى أجيزت قبل ثورة 1952 مباشرة مشكلات قناة السويس ويقول إنها ذات جذور بعيدة قديمة ترجع إلى الزمن الذى سعى فيه الغرب إلى الاتصال بالشرق من أقصر طريق ممكن مشروع شق قناة فى برزخ السويس، والفكرة فى ذاتها جيدة جدا ولكن شوهها وأفسدها اقترانها بشهوة الاستعمار وجنون الرغبة فى التسلط على الشرق ونهب ثروته واحتلال أسواقه. المرة الأولى التى عرض فيها مشروع القناة بصفة رسمية عندما انتهز المركيز سينلاى كولبير وزير البحرية الفرنسى عام 1685 فرصة الاضطرابات الداخلية فى تركيا والخصومة بينها وبين النمسا وكلف سفير فرنسا فى القسطنطينية المسيو جيرادان بالتفاوض مع الباب العالى بشأن البحر الأحمر، ووجد السفير جوا طيبا فعرض فكرة شق قناة فى برزخ السويس تصل البحر المتوسط بالبحر الأحمر. إذن لم يكن نابليون بونابرت إلا منفذا لخطة قديمة وسياسة سادت فى التاريخ على وتيرة واحدة بسبب موقع مصر فى طريق الهند. تجلى التكتل المسيحى ضد مصر فى معاهدة لندن 1840 ابتغاء السيطرة على طريق الشرق وظهرت جماعة سانت سيمونيان فى عصر محمد على حيث تبنت تنفيذ مشروع القناة كخطة يراد بها تمكين أوروبا من الشرق بأسره والعدوان على مصر وحقوقها وسيادتها، أما فرديناند ديليسبس فقد كان استعماريا من النوع الخطير أراد أن يجعل مشروع القناة أداة لتمكين فرنسا من احتلال مصر والسيطرة على الشرق كله. كل هذه المكائد تدبر فى ظل الفوضى التى بدأها البكوات المماليك فى طول البلاد وعرضها، والضعف الذى أصاب الإمبراطورية العثمانية. وكانت أوروبا فى هذا الوقت تنعم بالثورة الصناعية فاحتد التنافس على تجارة الهند واتسع أمام الأوروبيين أفق الحياة السياسية والاقتصادية وزيادة السكان. وتمكن ديليسبس من اللعب بعقل سعيد باشا الذى وافق له على شق القناة بشروط مجحفة لمصر وذلك فى 30 نوفمبر ,1854 ثم فرمان 5 يناير 1856 الذى يعد حجر الزاوية فى المأساة. وعندما تولى الخديو إسماعيل سعى إلى أن تكون القناة لمصر لا أن تكون مصر للقناة ورأى الناس أن شق القناة أكبر حادث عرفه التاريخ بل أجل عمل شهدته الإنسانية فى ماضى الأيام وحاضرها. ولكن القناة كانت بمثابة استعمار غربى شامل فجر المتاعب ومعها الكثير من أشكال التدخل الأجنبى فى صورة لجان مراقبة ثنائية بمصر وعدوان على سيادتها ووجودها من خلال صندوق الدين الذى وضع يده على موارد البلاد واضطربت الحياة السياسية والاقتصادية حتى هبط الاحتلال على مصر عام .1882 ∎