الحروب والثورات دائما ما ترسل لنا أبطالا مجهولين، لا نعرف أسماءهم وعناوينهم، لكننا نعيش بفضل إنجازاتهم، قد يكون كل المحاربين أو الثوار عظماء ومؤمنين بالقضية، لكن دوما هناك شخصا واحدا فقط يظهر فى الوقت المناسب ليفعل ما لم يستطع الملايين فعله، ثم يختفى، ربما للأبد.هذه الأيام يحتفل العالم بذكرى الثورة الصينية الخالدة من خلال ذكرى وقوف صينى مجهول أمام مدرعات الحزب الشيوعى منذ 24 عاما..
وبعد أيام قليلة سيحتفل المصريون بذكرى جلوس الإخوان على عرش مصر، والاحتفال ليس من الضرورى أن يعنى تعليق الزينة و«نفخ البالون»، فالثوار يجهزون العدة ليحتفلوا على طريقتهم الخاصة لعلها تكون المرة الأخيرة التى يحتفلون بها وتتحول الذكرى إلى ذكرى سعيدة بلا إخوان. فى الصين وقبل قرابة ال 24 عاما «24 أبريل 1989»، انطلقت الانتفاضة الشبابية على يد طلاب جامعة بكين، ليقفوا ضد الحزب الشيوعى الحاكم، رافضين سياساته الاقتصادية وقمعه لحرية الرأى، مطالبين بديمقراطية أكثر ورفع مستوى التعليم، حتى تحولت الانتفاضة إلى مشروع ثورة، شارك فيه 10 ملايين صينى من كل طوائف الشعب، وقرر عدد كبير من المتظاهرين الاعتصام فى ميدان تيانانمن «أكبر ساحة فى العالم». لكن الحزب الحاكم لم يرض بهذا الأمر، وأمر الشرطة بالتعامل مع المتظاهرين لقمع الانتفاضة، ولم تستطع الشرطة السيطرة وازدادت أعداد المتظاهرين، فأرسل الحاكم قوات الجيش بمدرعاتها وذخيرتها الحية لفض الميدان بالقوة «4 يونية 1989»، وبالفعل تم إخلاء الميدان بعد إطلاق النار على المعتصمين، ليسقط المئات من المصابين والقتلى واعتقال أكثر من 10 آلاف متظاهر. فى صباح اليوم التالى لهذا الحادث التقطت عدسات المصورين، الذين كانوا يقيمون فى الفنادق حول الساحة، شخصا من ظهره ولم يتمكنوا من منحنا فرصة التعرف على وجهه، الذى بقى فى المكان بعد عملية القتل والاعتقال، ليقف أمام دبابات الجيش محاولا منعها من التحرك ناحية الميدان، حتى توقفت وصعد هذا الشخص على إحدى الدبابات محاولا مخاطبة جنودها، ولم يعرف حتى الآن ماذا قال لهم الرجل أو بماذا رد الجنود، لكنه بعد نزوله، حاولت الدبابة التحرك بسرعة بعيدا عن الرجل، فجرى مرة أخرى ليقف أمامها بجسده! هو أول شخص فى التاريخ يفعلها ويقف أمام آلات القمع، يمنعها بجسده الضئيل من التحرك، لكن التاريخ لم يذكر لنا اسم هذا الرجل الذى كان يرتدى قميصا أبيض وبنطالا أسود ويحمل فى يديه شنطتين بلاستيك، سمته الصحافة آنذاك «رجل المدرعة»، وتعاملت معه الصحافة العالمية كأنه نبى جديد نزل إلى الأرض ليحررها من عبودية السلطة.ظل العالم لفترة طويلة يحكى قصة هذا الثائر المجهول صاحب أقصر بطولة مصورة فى تاريخ الثورات الشعبية، ويحتفل بذكراه كل عام. لم يظهر فى الفيديو الشهير الذى التقطت له سوى دقيقتين، حتى ظهر 4 أشخاص بملابس مدنية وأخذوه بعيدا عن الدبابات، وكأنهم يحاولون حمايته للحفاظ عليه، لكن حتى هؤلاء الأشخاص لم يتم التعرف عليهم، ليظل الرجل مجهولا، البعض يعتقد أنه قتل، والبعض الآخر يظن أنه ترك الصين أو تم اختطافه بعد الحادث، لكن الحكومة الصينية وقتها أكدت أنها لا تعرف شيئا عن هوية الرجل أو مكانه، لكنهم قالوا إنهم متأكدون من أنه لم يقتل! فى 25 يناير 2011رأينا رجل المدرعة مرة أخرى، لكن هذه المرة فى مصر، وقف أمام آلات «مبارك» ليطلق صفارات الثورة، ويؤكد المحللون السياسيون - الذين اعتقدوا أنها مجرد مظاهرات عابرة - أنهم يحتاجون للمزيد من مذاكرة التاريخ.. التاريخ الذى أعاد نفسه مرة أخرى ومنعنا من رؤية وجه أو معرفة اسم رجل المدرعة الجديد، حتى نتذكر فقط ماذا فعل. اهتمت الصحافة العالمية بصورة البطل المصرى وشبهته بالرجل الصينى، واعتبرت ميدان التحرير ساحة «تيانانمن» الجديدة.وقامت صحيفة الأهرام بعد 5 أشهر من الحادث بنشر نص لقاء صحفى مصحوب بصورة لشاب قالت إنه الشاب الذى وقف أمام المدرعة، لكن بعد أيام قليلة حذفت الصحيفة الحوار من على موقع بوابتها الإلكترونية، ونفت أن يكون هذا هو الشاب الحقيقى، ليصبح شاب المدرعة رمزا من رموز الثورة المصرية. فى الصين حاولت الحكومة منع أى معلومات مكتوبة، مرئية أو إلكترونية تعرض صورة أو قصة رجل المدرعة الصينى لسنوات طويلة، حتى إنها عقدت اتفاقيات مع شركات «جوجل»، «ياهو» و«ميكروسوفت» لتنظيم عملية انتشار المعلومات، خاصة التى تخص قوات الشرطة والجيش والمظاهرات فى الصين.. نتج عن ذلك أن كثيرا من شباب الصين الذين هم الآن تحت سن العشرين، لا يعرفون صورة رجل المدرعة ولا قصته، حتى من طلاب الجامعة التى بدأت الانتفاضة! ما فعله رجل المدرعة الصينى كان بداية الصحوة الصينية، وبداية عهد جديد للبلاد، اهتز الحزب الشيوعى، واختلفت نظرة العالم للصينيين رغم عدم اكتمال انتفاضتهم والتى لم تتحول لثورة بالشكل المعروف، لكن نستطيع أن نقول إن أهداف الثوار تحقق منها الكثير وأهمها الصحوة الاقتصادية والسياسية، ففى غضون السنوات الماضية استطاعت الصين أن تنافس على قيادة اقتصاد العالم لتصبح منتجاتها مألوفة فى معظم دول العالم، ورفعت بدرجة كبيرة من مستوى تعليم مواطنيها، وحرية الرأى التى أصبحت أفضل من قبل. فى مصر أيضا لم يختلف رد فعل الحكومة كثيرا، سواء فى الأيام الأخيرة لعهد المخلوع أو المجلس العسكرى، أو حتى فى ظل حكم الإخوان، فقوات القمع فعلت ما فعلته القوات الصينية، قتلت واعتقلت الثوار طيلة العامين الماضيين، ونجحت فى أوقات كثيرة فى تشويه الثورة، لتشوه بالتالى معظم رموزها، وضللت الشعب كما فعل الحزب الشيوعى، لكن الشعب الصينى لم يستسلم ومضى فى طريق الأمل والعمل والعلم، وصنع من وطنه نموذجا واقعيا للدول الراغبة فى الانطلاق، رغم أن الثورة الصينية أجهضت بدماء باردة، لكن صورة رجل المدرعة لم تختف من ذاكرة العالم، وميدان «تيانانمن» مازال حيا، كما هو الحال للثورة المصرية التى هى مازالت حية وأكثر اكتمالا ووضوحا من الانتفاضية الصينية، وليس أمامنا إلا أن نحقق ما كنا نهتف به فى الميادين، وننتظر دورنا فى التاريخ ليمنحنا ما منحه للصينيين.