مأساة زلزال الصين .. رب ضارة نافعة ماثيو فورني في الشارع الذي أقطن به في العاصمة بكين قامت لجنة الجوار التابعة للحزب الشيوعي بإخلاء جميع المخازن التابعة لها من أجهزة الحاسوب القديمة لكي تضع فيها المواد العينية التي يتبرع بها الأفراد لضحايا الزلزال الذي يبعد عنهم ألفي ميل. وخلال 12 ساعة كانت الحجرات جميعها قد امتلأت بالملابس والبطاطين. وفي كافة أنحاء الصين يبدو ان صور الدمار الشامل والشجاعة الفردية للمواطنين العاديين قد أثارت دوافع البذل والتبرع بالأموال فسرت روح العطاء لضحايا الزلزال في التلال النائية التي تقبع الى جوار جبال الهيمالايا. وقد يبدو هذا الشعور الوطني مشابها لتجاوب الاميركيين مع ضحايا إعصار كاترينا الذي ضرب نيو أورليانز. بيد ان ما تشهده الصين هو شيء جديد وجوهري. فتلك هي المرة الأولى في التاريخ الحديث الذي يشارك فيه المواطن الصيني العادي في حركة وطنية ليست احتجاجا ضد شيء ما في العادة كان قوة خارجية. وحتى الوقت الحاضر كانت الصين تعرف نفسها بأنها " نحن مقابل هم " والآن أصبح التعريف هو " نحن بدونهم" ومثل هذا التغيير يمكن أن يكون له آثاره الهائلة الايجابية على دورة الألعاب الأوليمبية في بكين وكذا على ثقة الصين بالنفس لسنوات قادمة. فحتى وقوع الزلزال في 12 مايو كان هناك شعور بالإحباط يسود أنحاء الصين. فالمواطنون ينظرون الى دورة ألعاب بكين على أنها تأكيد على التقدم الذي أحرزته بلادهم. بيد أنهم عندما يتطلعون الى اي وجهة في العالم الخارجي يجدون اللوم ينصب على بلدهم سواء لدعمها النظام الحاكم في السودان أو قمعها للإحتجاجات المعارضة للحكومة في التبت أو إرسالها كوادر من جيش الشعب لحماية الشعلة الأوليمبية في الخارج. بل إن هناك من يوجه اللوم الى الصين ويحملها مسؤولية رفض بورما قبول المساعدات الخارجية في أعقاب تعرضها للإعصار قبل نحو أسبوعين. والقليل من الصينيين هم الذين يختلفون مع الموقف العام إزاء تلك الأمور ولكن الغالبية يشعرون ان العالم ينتهك الإتفاق الثابت على أن الألعاب الأوليمبية يفترض أن تجلب للدولة المنظمة الثناء لا الإدانة. وهناك قصيدة انتشرت على الانترنت في شهر مارس وحققت شعبية واسعة تلخص مشاعر الإحباط بعبارت بليغة مؤثرة يقول بعضها : " عندما أوصدنا أبوابنا أطلقتم ضدنا حرب الأفيون لفتح مغاليق أسواقنا وعندما سرنا على طريق التجارة الحرة كان اتهامكم لنا أننا سرقنا منكم فرص العمل" ومن الواضح ان حساسية الصين تجاه مواقف الأجانب ليست بالشيء الجديد. فعلى مدى عقود ماضية كان الشعور العام بالتوحد قد ولد من رحم شعور مشترك بالوقوع ضحية لدول أخرى. فقد توحد الشباب الصيني ضد الولاياتالمتحدة بعد قصف السفارة الصينية في بلجراد عام 1999 ( الذي قالت واشنطن أنه لم يكن متعمدا ) وكذا بعد الاصطدام الذي وقع بين طائرة تجسس أميركية وطائرة مقاتلة صينية عام 2001 وضد اليابان مرات عديدة كان آخرها عام 2005 في ذكرى الفظائع التي ارتكبتها في الصين منذ نصف قرن وضد فرنسا بسبب المظاهرات المؤيدة للتبت والتي أدت الى تعطيل مسيرة الشعلة الأوليمبية. وكانت الانتفاضة التي شهدها ميدان تيانانمن عام 1989 استثناء نادرا عندما توحد كثير من الصينيين ضد الحكومة هناك وليس ضد قوى أجنبية. إلا ان النقطة المحورية للتوحد كانت هي المعارضة ايضا وفيما بعد اتهمت الحكومة عناصر أجنبية بخداع الطلاب الصينيين وإسقاطهم في شرك بهدف تقسيم الصين وإضعافها. وإذا عدنا الى أبعد من ذلك في الماضي فالنموذج لا يتغير. فجميع الطلاب الصينيون يتعلمون أن الصين الحديثة قد ولدت خلال حركة طلابية سرت في جميع أرجائها اندلعت في مايو 1919 للاحتجاج على معاهدة فرساي التي أنهت الحرب العالمية الأولى ونقلت الممتلكات الاستعمارية لألمانيا في الصين الى اليابان بدلا من إعادتها الى سيطرة بكين. وفي القرن السابق كانت القوى الأوروبية قد دخلت في حروب عديدة مع الصين بهدف السيطرة على أجزاء من أراضيها بما في ذلك هونج كونج التي تنازل عنها الامبراطور كنج الى بريطانيا " الى الأبد" عام 1842. ولا يشك أحد في المعاناة التي لاقتها الصين على أيدي القوى الاستعمارية إلا أن الصين لن تظهر في ثياب الدولة العصرية الواثقة إلا بعد أن تنفض عن كاهلها مخلفات الماضي ولن يحدث ذلك إلا بعد أن يتولد من داخلها شعور بالوحدة الوطنية. والزلزال الذي وقع في سيشوان كان مأساويا بالقطع إلا أن تأثيره على المدى البعيد ربما يثبت أنه كان مفيدا. فالزلزال الذي ضرب مناطق في أقصى الأراضي الصينية والتي يصعب الوصول اليها قد استنفر المسؤولين المحليين في كل مكان حيث ظلوا في مكاتبهم يضعون خطط الطوارئ موضع التنفيذ وينسقون بين أنشطتهم بصورة أفضل الى حد بعيد من تلك التي يمكن توقعها سواء في البلدان النامية أو حتى في كثير من الدول المتقدمة. فالتشجيع الذي وجهه رئيس الوزراء وين جياباو للناجين ومخاطبته لليتامى المفزوعين ان الحكومة ستقدم لهم الرعاية كان نموذجا فاق ما فعله بيل كلينتون. كما أن وسائل الإعلام الصينية قد استخدمت نطاق الحريات المتسع لعرض قصص مآسي الضحايا واعمال الإغاثة دون تحويل جهود الإنقاذ الى أبواق للدعاية. والامل معقود أن روح الانفتاح الجديدة ستمكن الصحفيين الصينيين من اجراء التحقيقات حول الإنشاءات المخالفة للمواصفات وما إذا كانت القوات التي تم نشرها في المنطقة المنكوبة قد تم تزويدها بالمعدات الجيدة المناسبة. وبالنظر الى الدمار الذي لحق باقليم سيشوان يجدر بالصينيين أن يضعوا جل تركيزهم على الداخل الآن. ففجأة لم تعد الأوليمبياد هي الشيء الأهم. حتى الحكومة قد أدركت ذلك وقلصت مسيرة الشعلة الأوليمبية التي عانت في مسيرتها في الخارج ولكنها انتصرت في الداخل. فالصين لم تعد بحاجة الى أن تثبت المزيد للعالم. وبتأملها شعبها خلال مأساة سيشوان تكون الصين قد أثبتت لنفسها ما فيه الكفاية. نشر في صحيفة " لوس انجلوس تايمز وواشنطن بوست " ونقل من صحيفة " الوطن العمانية " 25/5/2008