مخطئ من يظن أن مصر تحكم فقط من قصر الاتحادية أو مقر مجلس الوزراء، حيث ينافسهم مجلس الدولة بشقيه - القضاء الإدارى والإدارية العليا - الذى يقف حكما بين الدولة والمواطن.. تقف الدولة على أطراف أصابعها فى انتظار أحكامه التى كانت ومازالت هى القول الفصل وغطاء الحماية للمواطنين من تغول السلطة التنفيذية، وحامية لحقوق الدولة فى اتخاذ القرارات ذات السيادة. من هنا تعاظمت قيمة ومكانة القضاء الإدارى الذى ظل مستقلا ومؤرقا لكل الأنظمة التى فشلت فى استئناسه ودخلت معه فى صدامات سابقة، وربما كان هذا هو السبب الذى دفع وزير العدل «أحمد مكى» التقدم بمذكرة إلى الجمعية التأسيسية التى تقوم حاليا بإعداد الدستور الجديد للبلاد يطلب ويقترح فيها ضم مجلس الدولة إلى القضاء العادى وجعله مجرد دائرة فى إحدى دوائر المحاكم والنص على ذلك فى الدستور الجديد.
بالطبع اقتراح وزير العدل ليس فى صالح العدالة، بل هى محاولة من الدولة التى يمثلها لاستئناس هذه الهيئة القضائية التى أصدرت أشهر وأهم الأحكام فى تاريخها، وشهدت الفترة الانتقالية بعد ثورة يناير كثيراً من الأحكام التى أثارت جدلا وانحازت للحق بداية من حل الحزب الوطنى وحل المجالس المحلية وإحالة قانون العزل وانتخابات مجلس الشعب إلى الدستورية العليا، بل وقفت ضد قرار المشير طنطاوى فيما يخص الضبطية القضائية وإحالة المدنيين للمحاكمات العسكرية - فهى باختصار انحازت للحقوق الإنسانية وللحريات وفقا للقانون.
مطلب «مكى» أشعل فتيل الأزمة وأشعر هيئة قضائية كاملة بالخطر على العدالة، وأن هناك توجها جديدا من الدولة وإدارتها لملف القضاء وإعادة ترتيب ملفه بشكل جديد وهو ما رفضه القضاة والسياسيون واعتبروها مذبحة جديدة.
الأسبوع الماضى وتحديدا يوم الأحد كان أن انعقدت الجمعية العمومية لمستشارى مجلس الدولة لاختيار رئيس جديد للمجلس خلفا للمستشار «عبدالله أبوالعز» الذى انتهت رئاسته للمجلس نهاية هذا الشهر بإحالته للمعاش، وتم اختيار «المستشار غبريال عبدالملاك» رئيسا جديدا للمجلس وقبل انتهاء الجمعية العمومية أصدر المجتمعون بيانا أكدوا فيه أنها فى حالة انعقاد دائم حتى يتم الانتهاء من كتابة الدستور والتأكد من وجود نص بالدستور باستقلال مجلس الدولة عن باقى الهيئات القضائية وعدم المساس باختصاصاته.
وفى اليوم التالى لصدور البيان عقد نادى قضاة مجلس الدولة مؤتمرا صحفيا وأصدروا بيانا آخر أعلنوا فيه رفض النادى للأفكار الداعية لوحدة القضاء بدمج مجلس الدولة فى القضاء العادى مطالبين بالحفاظ على النص الدستورى باختصاصات مجلس الدولة يكون جهة قضائية مستقلة.
وطالبوا فيه بضرورة العمل على احترام تعهدات رئيس الجمهورية خلال لقائه ورؤساء الهيئات القضائية والمجلس الأعلى للقضاء فى حضور نائب رئيس الجمهورية بأنه سيكون حاميا لاستقلال القضاء وأن كل ما يشاع عن دمج أو الانتقاص من أى هيئة قضائية غير صحيح.
المستشار «وليد الطنانى» - وكيل مجلس الدولة وعضو مجلس إدارة نادى قضاة مجلس الدولة - صرح قائلا: أقول لوزير العدل ناصحاً لقد حاول من سبقك أن ينال من مجلس الدولة بإلغائه وإعادة تشكيله وسلبه اختصاصاته ولكنهم رحلوا وبقى مجلس الدولة حصناً للحقوق والحريات حاميا للشعب المصرى.
وأضاف: «فكرة القضاء الإدارى أو القضاء الذى يحكم بين المواطنين وسلطات الدولة نشأت منذ الدولة الإسلامية تحت مسمى ديوان المظالم الذى يختلف عن باقى القضاء كالجنايات والجنح وخلافه فديوان المظالم كان قضاة من الخلفاء والأمراء فقط لأنه كان ينظر فى قضايا أو مظالم المواطنين ضد قرارات الحكام.
وانتقلت الفكرة إلى فرنسا وتطورت وأصبحت يطلق عليها مجلس الدولة الفرنسى الذى أنشئ منذ أكثر من 150 عاما، ثم أتت الفكرة إلى مصر على يد فقهاء وقضاة عظام فى الفترة ما قبل ثورة 23 يوليو عام 1952 وهى الفترة التى ازدهرت فيها الحقوق والحريات، حيث يقوم المجلس بالفصل فى المنازعات التى تنشأ بين الأفراد والدولة وانتصر المجلس لحقوق وحريات الأفراد ضد بطش الدولة وظل على عهده، لهذا حدث تصادم بين المجلس ونظام ثورة 23 يوليو عندما كان يرأس المجلس المستشار «عبدالرازق السنهورى باشا» الذى أبى ألا يحصل الشعب على حقوقه وحرياته وديمقراطيته وانتهى الصدام بإعادة تشكيل مجلس الدولة فى عام 1955 وتم الإطاحة ب18 قاضيا من قضاة مجلس الدولة وعلى رأسهم «السنهورى».
واستكمل قائلا: أعيد تشكيل مجلس الدولة وأنشئت المحكمة الإدارية العليا وإدارة الفتوى إلا أنه حدث صدام ثانٍ بين المجلس والنظام فى عام 1969 بعد إصدار المجلس العديد من الأحكام المهمة وتم الصدام بعزل أربعة من كبار مستشارى المجلس.. إلا أن المجلس عاد وأصبح أكثر قوة وانتصر للحقوق والحريات، فمجلس الدولة مشعل ثورة 25 يناير عام 2011 وهو من حافظ عليها وعلى حرية المواطنين وأرسى دعائم الديمقراطية والعدالة والكرامة للشعب فأصدر العديد من القضايا المهمة مثل إلغاء بيع شركات القطاع العام وإلغاء الحرس الجامعى وإلغاء قرار بيع الغاز لإسرائيل.
المستشار «أيمن عبدالغنى» - عضو لجنة الدعم الفنى بالجمعية التأسيسية - قال لنا أن فكرة دمج مجلس الدولة جاءت للجمعية من خلال اقتراح تقدم به وزير العدل للجنة نظام الحكم بالتأسيسية تضم عدم تسمية الهيئات القضائية فى الدستور الجديد والاكتفاء بوضع ضمانات عامة وأحكام عامة للقضاء.
وأضاف.. وهذا الاقتراح قوبل بالرفض من ممثلى مجلس الدولة وممثلى المحكمة الدستورية فى الجمعية التأسيسية مبررين رفضهم بأن الهيئات القضائية يجب أن ينص عليها فى الدستور حماية لها من تغول السلطة التشريعية فيها بإصدار قوانين تقلص من اختصاصاتها.
وهذا الأمر مازال معروضا على لجنة نظام الحكم ولم يتم حسمه حتى الآن لأن اللجنة مشغولة بمسائل كثيرة ومتداخلة ومتشعبة وتتسم بالأهمية القصوى وخاصة اختصاصات رئيس الجمهورية والبرلمان وموقف القضاء العسكرى فى الدستور وباب القوات المسلحة والدفاع الوطنى وهذه الأمور تحتاج لمناقشات مستفيضة حتى تتبلور الأفكار والتواصل إلى نصوص حاكمة فى هذه الأمور! المستشار «عبدالغنى» أوضح أنه فى الغالب ستنتهى لجنة نظام الحكم من تحديد وضع القضاء فى وضع الدستور المصرى الجديد نهاية هذا الأسبوع وأن الاتجاه حتى الآن الإبقاء على مجلس الدولة.
معلقا بقوله: أنا مع بقاء مجلس الدولة من أجل تكريس الديمقراطية لأن دور المجلس فى الأساس الرقابة على المشروعية فهو قضاء يراقب أعمال سلطات الدولة، فإذا تم ضمه إلى القضاء العادى وأصبح دائرة فى محكمة هذا لا يتفق مع فلسفة إنشاء المجلس بأنه جهاز قضائى قريب من الدولة ويراقب تصرفاتها، خاصة أن مجلس الدولة لديه اختصاصات وأقسام تجعله متغلغلاً فى الجهاز الإدارى للدولة وقريباً من تصرفاتها مثل قسم الفتوى والتشريع ومفوضى الدولة والعديد من اللجان القضائية التى تشكل بعضوية قضاة من مجلس الدولة كل هذا يجعل قاضى مجلس الدولة حينما يحكم لصالح أو ضد الدولة يكون على دراية وافية بالظروف المحيطة بالقضية المقامة أمامه.
وفى نفس الوقت - كما يقول المستشار عبدالغنى - يجب أن يتم تطوير المنظومة القضائية بالكامل فيجب تفعيل طاقات رجال القضاء والهيئات القضائية وتقضى أو تمنع الازدواجية التى تؤدى إلى تعطيل الفصل فى القضايا.
المستشار «الطنانى» أكد على أنه كان ممكن وقفوا بجوار وزير العدل أحمد مكى وقت أزمة القضاة..معلقا: كنا أول من طالبنا باستقلال القضاء العادى عن وزارة العدل وتمنى وقتها المستشار مكى أن يحصل القضاء العادى على استقلاله مثل مجلس الدولة!!
وأضاف: مجلس الدولة كان مستقلا عن وزارة العدل وأى سلطة تنفيذية، فالقضاء العادى قضاة يخضعون لإدارة التفتيش بوزارة العدل وهى سلطة تنفيذية بينما نحن نخضع لإدارة التفتيش بمجلس الدولة وليست هناك سلطة عليا على مجلس الدولة سوى ضمائر مستشاريه.
مستشار مجلس الدولة لايرقى إلا إذا حصل على الماجستير فى القانون وخلال فترة معينة لأن قاضى المجلس لا يحكم نصوص قانون فهو الذى ينشئ قاعدة قانونية يحكم بها وهذا يتطلب إبداعا وفكرا من القاضى، فأهمية مجلس الدولة جعل كلا من عصام سلطان والدكتور محمد محسوب خلال اجتماع لجنة الاستماع بالجمعية التأسيسية مع مستشارى المجلس يدافعان بقوة على بقاء مجلس الدولة مطالبين عدم المساس به.
بينما قال لنا المستشار «محمد حسن» - نائب رئيس مجلس الدولة وعضو مجلس إدارة نادى قضاة مجلس الدولة - حتى الآن لا نعرف ما هو هدف وزير العدل من دمج مجلس الدولة مع باقى الهيئات القضائية من خلال القضاء الموحد، فمجلس الدولة قضاء متخصص فهو قاضى الحقوق والحريات لايقبل الضغوط وأنا أعتقد أن الهدف من إلغائه هو إلغاء الحقوق والحريات، فجميع الدول العربية تلجأ إلى مصر للاستعانة بخبرتنا لإنشاء مجلس الدولة لديها كقاضٍ لحماية الحقوق والحريات فإذا كان الهدف من القضاء الموحد هو توحيد الإجراءات فهذا الهدف غير محمود!
أما المستشار «عادل فرغلى» - نائب رئيس مجلس الدولة ورئيس محاكم القضاء الإدارى - فقال لنا: يجب أن يظل مجلس الدولة مستقلا عن باقى الهيئات القضائية لأن له طبيعة مختلفة عن القضاء العادى وأبسط دليل على ذلك أن القضاء العادى يطبق قوانين لها نصوص محددة كقانون العقوبات وقانون المرافعات والقانون المدنى، بينما القضاء الإدارى مختلف، فالعدالة الإدارية مهمتها الأساسية أن يتدخل القاضى لينصف المحكوم من ظلم الحاكم، فالمحكوم هو المواطن وهو جانب ضعيف ليس بيده سلطة والسلطة فى يد الحاكم قد يتخذ قرارات خطأ ضد المواطن، وهنا يلجأ المواطن للقضاء الإدارى لرفع ظلم الحاكم عنه، وعندما يأتى المواطن للقضاء الإدارى يقوم القضاء الإدارى برفعه إلى مستوى الحاكم والفصل فى قضية وإصدار الحكم إما لصالحه فى حالة وقوع ظلم عليه أو رفض القضية فى حالة ما إذا كان الحاكم أصدر قراراً سليما.
ولطبيعة القضاء الإدارى والقضايا التى ينظرها نجده ينظر سنويا أكثر من 300 ألف دعوى قضائية أقامها مواطنون وموظفون ضد الحكومة ورئيس الجمهورية وأجهزة الحكومة المختلفة. وأكد المستشار فرغلى لايوجد قانون اسمه قانون القضاء الإدارى مثل قوانين القضاء العادى والقاضى فى القضاء الإدارى يضع قواعد قانونية يطبقها وهذه القواعد تتغير مع الظروف العامة.
وبالتالى إذا ضم القضاء الإدارى فى القضاء العادى يحدث خلل فى العدالة الإدارية التى تشمل العدالة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية فى المجتمع المصرى، فمفهوم الحرية فى القضاء العادى مختلف عن مفهوم الحرية فى القضاء الإدارى الذى أكدت قواعده القانونية ضرورة حق المواطن فى الإبداع وحرية الفكر إلى أقصى حد دون أن يؤثر ذلك على النظام العام، هذا غير موجود فى القضاء العادى سيحكم بحكم القاضى نصوص قانونية محددة.
يبنما القاضى مثل القضاء الإدارى يمسك ميزان العدل ويضع الحرية والديمقراطية وحرية الفكرة فى ناحية والناحية مقتضيات النظام العام وعلى هذا الأساس يصدر حكمه.
وبالتأكيد تنكمش الحريات وحقوق المواطنين وسيكون فى مصر حد أدنى للإبداع والفكر فى حالة ضم مجلس الدولة إلى القضاء العادى وأعظم مثال على ذلك فى قضية تصدير الغاز لإسرائيل هى قضية عقود ولو ذهبت إلى القضاء العادى سيحكم بتأييد تصدير الغاز لإسرائيل لأنها عقود وبينما عندما جاءت إلى مجلس الدولة والقضاء الإدارى وطبقا للقواعد والأسس القانونية ومفاهيم حرية المواطن التى وضعها مجلس الدولة أصدرت محكمة القضاء الإدارى حكمها بإلغاء قرار تصدير الغاز إلى إسرائيل.
وسألنا المستشار عادل فرغلى هل الدولة خائفة من بقاء مجلس الدولة؟ قال وزير العدل أحمد مكى ونائب رئيس الجمهورية أن القضاء يجب أن يكون تحت السيطرة وهذا ليس له محل وإن شاء الله سيظل مجلس الدولة باقيا لأن ليس هناك مبرر لكى يضم مجلس الدولة للقضاء العادى.