لا أنسى تلك الليلة منذ سنوات وأنا فى رحلتى فى أدغال أفريقيا الاستوائية أشق النيل العريض فى سفينة نيلية وقد تجاوزنا الملكال ودخلنا منطقة يكثر فيها البعوض وينبسط فيها النيل على شكل مستنقعات على مدى البصر.. والسفينة تتهادى على سطح الماء فى جو لزج شديد الرطوبة ويقع مريضا بالملاريا كل من على السفينة حتى الربان.. وأنا أبتلع أقراص الكوموكين بانتظام خوفا من الإصابة بالحمى. وذات ليلة خطر لى أن أصعد على سطح السفينة لأتفرج على أفريقيا الاستوائية فى الليل. ودهنت وجهى وذراعى بطارد البعوض وتسللت إلى السطح وكان ما رأيته شيئا كالحلم. كانت آلاف الأشجار تضىء وتنطفئ وكأنها أشجار عيد الميلاد يلهو بها الأطفال وقد غطوها بآلاف القناديل الكهربائية الصغيرة يضيئونها ويطفئونها معا. ومسحت على عينى من الدهشة.. وعدت أنظر.. كان ما أرى حقيقة لا خيالا. كانت الأشجار تومض بالفعل كأنها مغطاة بآلاف الكهارب لم تنطفئ. وأخبرنى الربان أن ما رأيت فى تلك الليلة كان هو الحقيقة بعينها.. وأن تلك الأشجار تغطيها آلاف من حشرات الحباحب المضيئة وأنها تضىء معا لتجتذب البعوض بضوئها ثم تأكله وتعود فتنطفئ لتضىء من جديد .. وأن هذه سنة الطبيعة كلما تكاثرت حشرة اصطنع لها الله حشرة مضادة تأكلها ليحفظ للمخلوقات توازنها فلا يطغى واحد على الآخر إلا بحساب. وظللت أذكر تلك الليلة. وظللت أذكر ذلك الحديث. وكل يوم يجتمع لدىَّ المزيد من الأدلة بأن الكون هو بالفعل مسرح للتوازن العظيم فى كل شىء.. وأن كل شىء قد قدر تقديرا دقيقا لو كانت الكرة الأرضية أصغر حجما مما هى لضعفت جاذبيتها ولأفلت الهواء من جوها وتبعثر فى الفضاء ولتبخر الماء وتبدد ولأصبحت جرداء مثل القمر لا ماء ولا هواء ولا جو ولاستحالت الحياة. ولو كانت أكبر حجما مما هى لازدادت قوتها الجاذبة ولأصبحت الحركة على سطحها أكثر مشقة ولازداد وزن كل منا أضعافا ولأصبح جسده عبئا ثقيلا لا يمكن حمله. ولو أنها دارت حول نفسها بسرعة أقل كسرعة القمر مثلا لاستطال النهار إلى 14 يوما والليل إلى 14 ليلة ولتقلب الجو من حر مهلك بطول أسبوعين إلى صقيع قاتل بطول أسبوعين ولأصبحت الحياة مستحيلة. وبالمثل لو أن الأرض اقتربت فى فلكها من الشمس مثل حال الزهرة لأهلكتنا الحرارة.. ولو أنها ابتعدت فى مدارها مثل زحل والمشترى لأهلكنا البرد. وأكثر من هذا فنحن نعلم أنها تدور بزاوية ميل قدرها 33 درجة الأمر الذى تنشأ عنه المواسم وتنتج عنه صلاحية أكثر مناطق الأرض للزراعة والسكن. ولو كانت قشرة الأرض أكثر سمكا لامتصت الأكسجين ولما وجدنا حاجتنا من هذا الغاز الثمين للتنفس. ولو كانت البحار أعمق لامتصت المياه الزائدة ثانى أكسيد الكربون ولما وجد النبات كفايته ليعيش ويتنفس. ولو كان الغلاف الهوائى أقل كثافة لأحرقتنا النيازك والشهب المتساقطة بدلا من أن تستهلك هذه الشهب وتتفتت أثناء اختراقها للغلاف الهوائى الكثيف كما يحدث حاليا. ولو زادت نسبة الأكسجين عما هى عليه حاليا فى الجو لازدادت القابلية للاحتراق ولتحولت الحرائق البسيطة إلى انفجارات هائلة. ولو انخفضت لاستحال نشاطنا إلى خمول. ولولا أن الثلج أقل كثافة من الماء لما طفا على السطح ولما حفظ أعماق البحار دافئة وصالحة لحياة الأسماك والأحياء البحرية. ولولا مظلة الأوزون المنصوبة فى الفضاء فوق الأرض والتى تمنع وصول الأشعة فوق البنفسجية إلى الأرض إلا بنسب ضئيلة.. لأهلكتنا هذه الأشعة القاتلة. فإذا جئنا إلى تشريح الإنسان نفسه فسوف نرى المعجزة والملغز من أمر هذا التوازن الدقيق المحسوب.. فكل عنصر له فى الدم نسبة ومقدار.. الصوديوم.. البوتاسيوم.. الكالسيوم. السكر.. الكوليسترول.. البولينا. وأى اختلال فى هذه النسب ولو بمقادير ضئيلة يكون معناه المرض.. فإذا تفاقم الاختلال فهو العجز والموت. والجسم مسلح بوسائل آلية تعمل فى تلقائية على حفظ هذا التوازن طوال الحياة. بل إن قلوية الدم لها ضوابط لحفظها. وحموضة البول لها ضوابط لحفظها. ودرجة الحرارة المكيفة دائما عند 37 مئوية من ورائها عمليات فسيولوجية وكيمايئية تحفظها ثابتة متزنة عند هذا المستوى. وكذلك ضغط الدم. وتوتر العضلات. ونبض القلب. ونظام الامتصاص والإخراج. ونظام الاحتراق الكيميائى فى فرن الكبد. ثم الاتزان العصبى بين عوامل التهدئة والإثارة. فى عملية التنظيم التى تقوم بها الهرمونات والإنزيمات بين التعجيل والإبطاء للعمليات الكيميائية والحيوية. معجزة فنية من معجزات التوازن والاتساق والهارمونى يعرفها كل طبيب وكل دارس للفسيولوجية والتشريح والكيمياء العضوية. «وخلق كل شىء فقدره تقديرا» الفرقان (2) ولن تنتهى الأمثلة فى علم النبات والحيوان والطب والفلك. مجلدات ومجلدات وكل صفحة سوف تؤيد وتؤكد هذا التوازن المحكم والانضباط العظيم فى عالم الخلق والمخلوقات. والقول بأن كل هذا الاتساق والنظام حدث صدفة واتفاقا هو السذاجة بعينها. كقولنا أن انفجارا فى مطبعة أدى إلى أن تصطف الحروف على هيئة قاموس محكم. والكيميائى المغرور الذى قال.. ايتونى بالهواء والماء والطين وظروف نشأة الحياة الأولى وأنا أصنع لكم إنسانا. هذا الكيميائى قد قرر احتياجه سلفا لكل العناصر والظروف وهو اعتراف بالعجز عن تقليد صنعة الخالق الذى خلق الشىء وخلق ظروفه أيضا. ولو أنا آتيناه بكل هذه العناصر وكل تلك الظروف.. ولو أنه فرضا وجدلا استطاع أن يخلق إنسانا.. فإنه لن يقول.. صنعته الصدفة.. بل إنه سوف يقول.. صنعته أنا. والكلام عن القرد الذى يجلس على آلة كاتبة لمدى اللانهاية من الزمان ليدق لا نهاية من الإمكانيات. وكيف أنه لابد يوما ما أن يدق بالصدفة بيتا لشكسبير أو جملة مفيدة.. هو كلام مردود عليه. فسوف نسلم جدلا وفرضا أن الطبيعة اكتشفت صدفة واتفاقا وبعد ملايين الملايين من التباديل والتوافيق بين العناصر تكونت بالصدفة كمية من الحامض النووىD.N.A الذى يستطيع أن يكرر نفسه. كيف تطورت هذه الكمية من الحامض العضوى إلى الحياة التى نراها؟ سوف نعود فنقول بالصدفة أمكن تشكيل البروتوبلازم. ثم بصدفة أخرى تشكلت الخلية. ثم بصدفة ثالثة تشعبت إلى نوعين خلية نباتية وخلية حيوانية. ثم نتسلق شجرة الحياة درجة درجة ومعنا هذا المفتاح السحرى. كلما أعيتنا الحيلة فى فهم شىء قلنا إنه حدث صدفة. هل هذا معقول. بالصدفة تستدل الطيور والأسماك المهاجرة على أوطانها على بعد آلاف الأميال وعبر الصحارى والبحار. بالصدفة يكسر الكتكوت البيضة عند أضعف نقطة فيها ليخرج. بالصدفة تلتئم الجروح وتخيط شفراتها بنفسها بدون جراح. بالصدفة يدرك عباد الشمس أن الشمس هى مصدر حياته فيتبعها. بالصدفة تصنع أشجار الصحارى لنفسها بذوراً مجنحة لتطير عبر الصحارى إلى حيث ظروف إنبات ورى وأمطار أحسن. بالصدفة اكتشف النبات قنبلته الخضراء «الكلوروفيل» واستخدمها فى توليد طاقة حياته. بالصدفة صنعت البعوضة لبيضها أكياساً للطفو «بدون معونة أرشميدس». والنحلة التى أقامت مجتمعاً ونظاماً ومارست العمارة و فنون الكيمياء المعقدة التى تحول بها الرحيق إلى عسل وشمع. وحشرة الترميت التى اكتشفت القوانين الأولية لتكييف الهواء أقامت بيوتاً مكيفة وطبقت فى مجتمعها نظاماً صارماً للطبقات. والحشرات الملونة التى اكتشفت أصول وفن مكياج التنكر والتخفى. هل كل هذا جاء صدفة. وإذا سلمنا بصدفة واحدة فى البداية. فكيف يقبل العقل سلسلة متلاحقة من المصادفات والخبطات العشوائية. إنها السذاجة بعينها التى لا تحدث إلا فى الأفلام الهزلية الرخيصة. وقد وجد الفكر المادى نفسه فى مأزق أمام هذه السذاجة فبدأ يحاول التخلص من كلمة صدفة ليفترض فرضاً آخر.. فقال إن كل هذه الحياة المذهلة بألوانها وتصانيفها بدأت من حالة ضرورة.. مثل الضرورة التى تدفعك إلى الطعام ساعة الجوع. ثم تعقدت الضرورة بتعقد الظروف والبيئات والحاجات فنشأت كل هذه الألوان. وهو مجرد لعب بالألفاظ. فمكان الصدفة وضعوا كلمة «تعقد الضرورة» وهى فى نظرهم تتعقد تلقائياً.. وتنمو من نغمة واحدة إلى سيمفونية تلقائياً.. كيف؟ كيف ينمو الحدث الواحد إلى قصة محبوكة بدون عقل مؤلف؟ ومن الذى أقام الضرورة أصلاً؟ وكيف تقوم الضرورة من لا ضرورة؟ إنها استماتة العقل الخبيث المكابر ليتجنب صوت الفطرة الذى يفرض نفسه فرضاً ليقول بأن هناك خالقاً مدبراً هو اليد الهادية وعصا المايسترو التى تقود هذه المعزوفة الجميلة الرائعة. هذا التوازن العظيم والاتساق المذهل والتوافق والتلاحم والانسجام الذى يتآلف من ملايين الدقائق والتفاصيل يصرخ بأن هناك مبدعاً لهذه البدائع وأنه إله قادر جامع لكل الكمالات قريب من مخلوقاته قرب دمها من أجسادها.. معتنى بها عناية الأب الحنون مستجيباً لحاجاتها سميعاً لآهاتها بصيراً بحالاتها.. وإنه الله الذى وصفته لنا الأديان بأسمائه الحسنى ولا سواه.. وليس القانون الأصم الذى تقول به العلوم المادية البكماء.. ولا إله أرسطو المنعزل.. ولا إله أفلاطون القابع فى عالم المثل.. ولا هو الوجود المادى بكليته كما تصور اسبينوزا وأتباع وحدة الوجود. وإنما هو: الأحد. الذى ليس كمثله شىء.. المتعالى على كل ما نعرف من حالات وصور وأشكال وزمان ومكان. ظاهر بأفعاله خفى بذاته.. لا تراه الأبصار ويرى كل الأبصار.. بل إن كل الأبصار ترى به وبنوره وبما أودع فيها من قدرة. والعقل العلمى لا يعترف بهذه الكلمات الصوفية ويريد أن يرى الله ليعترف به.. فإذا قلنا له ليس محدوداً ليقع فى مدى الأبصار.. وأنه اللا نهاية.. وإنه الغيب. يقول لنا العلم. إنه لهذا لا يعترف به. وأنه ليس من العلم الإيمان بالغيب.. وأن مجال العلم هو المحسوس، يبدأ من المحسوس وينتهى إلى المحسوس. فنقول للعلم.. كذبت. إن نصف العلم الآن أصبح غيباً. العلم يلاحظ ويدون الملاحظات.. يلاحظ أن صعود الجبل أشق من النزول منه. وأن رفع حجر على الظهر أصعب من رفع عصا.. وأن الطير إذا مات وقع على الأرض. وأن التفاحة تقع هى الأخرى من شجرتها إلى الأرض.. وأن القمر يدور معلقاً فى السماء. وهى ملاحظات لا تبدو بينها علاقة. ولكن حينما يكتشف نيوتن الجاذبية ترتبط كل هذه الملاحظات لتصبح شواهد دالة على هذه الجاذبية.. وقوع التفاحة من شجرتها وصعوبة تسلق الجبل وصعوبة دفع الحجر.. وتعلق القمر فى السماء. إنها نظرية فسرت لنا الواقع. ومع ذلك فهذه الجاذبية غيب لا أحد يعرف كنهها لم ير أحد الأعمدة التى ترفع السموات بما فيها من نجوم وكواكب. ونيوتن نفسه وهو صاحب النظرية يقول فى خطاب إلى صديقه بنتلى: إنه لأمر غير مفهوم أن نجد مادة لا حياة فيها ولا إحساس تؤثر على مادة أخرى وتجذبها مع أنه لا توجد بينهما أية علاقة. فها هى ذى نظرية علمية نتداولها ونؤمن بها ونعتبرها علماً.. وهى غيب فى غيب. والألكترون. والموجة اللاسلكية. والذرة. والنيوترون. لم نر منها شيئاً ومع ذلك نؤمن بوجودها اكتفاء بآثارها. ونقيم عليها علوماً متخصصة ونبنى لها المعامل والمختبرات.. وهى غيب فى غيب.. بالنسبة لحواسنا. والعلم لم ير ماهية أى شىء على الإطلاق. وغاية مطمعه أن يتعرف على العلاقات والمقادير. ومع ذلك فهو يحتضن بنظرياته كل الماهيات. نحن فى عصر العلم الغيبى. وأولى بنا أن نؤمن بعالم الغيب.. خالقنا البر الكريم.. الذى نرى آثاره فى كل لمحة عين وكل نبضة قلب وكل سبحة تأمل.؟ البقية الأسبوع القادم د. مصطفى محمود رحلتى من الشك إلى الإيمان 1970