فى «حارة» ضيقة من حارات منطقة المرج القديمة.. حيث البيوت القديمة المتلاصقة، ونحن نمشى فى هذه الحارة وصلت رائحة خبيز إلى أنوفنا ورأيت سيدات يدخلن ويخرجن من باب بيت فى وسط الشارع يحملن أكياسا مملوءة بالرقاق.. فدخلت أنا وزميلتى لنرى ماذا يحدث ومن أين لهم بهذا الرقاق. فوجدنا سلماً كبيراً وتحته ثلاث سيدات فى منتصف العمر.. تتراوح أعمارهن ما بين ال35 وال45 عامًا يجلسن بين أكوام الدقيق والعجين، وقد تناثر الدقيق على ملابسهن، وجلابيبهن ذات الألوان الزاهية الجميلة. تجلس إحداهن لتحضر العجين على شكل كور دائرية وتضعها أمام الأخرى التى تجلس أمام طبلية خشب مليئة بالدقيق لكى لا يلتصق بها العجين الذى تضعه عليها الأولى. عندما تبدأ الثانية فى فرده بعصا طويلة رفيعة من الأطراف وسميكة بعض الشىء من الوسط تسمى «نشَّابة». وكانت بعد فرد القطعة الأولى.. تفرد فوقها قطعة أخرى ثم تضعها على جانب الطبلية ليتم استلامها عن طريق السيدة الثالثة التى تجلس أمام الفرن ويزيد وجهها إحمرارًا مع الوقت وتتصبب عرقًا وهى تأخذ ما تضعه لها السيدة صاحبة النشابة وتضعه على عصا رفيعة وتعمل بكلتا يديها. أكتشفت وأنا أشاهد «عمل الرقاق»،أنه على الرغم من «رقته» وسهولة مكوناته إلا أنه يحتاج إلى دقة كبيرة فى كل شىء فى المقادير والعجن والفرد والتسوية، وهنا وجدت السيدات الجالسات أمام «الطبلية» تعرف كل منهن مهمتها بمنتهى الدقة ويعملن بنظام رائع فيقمن بوضع آلية للعمل.. فمثلاً السيدة التى تمسك بيديها اليمنى سيخًا حديدًا تضع عليه عجين الرقاق ليقسم السيخ العجين إلى نصفين أحدهما يتدلى على الجانب الأيمن والآخر يتدلى على الجانب الأيسر لتضعه بحرفة ومهارة فى الفرن الذى أمامها، وفى نفس الوقت تمسك بيدها اليسرى «كفة» وهى عبارة عن يد خشب فى نهايتها دائرة خشبية أو شكل «كف» لتخرج بها «الرقاق» من الفرن وتقوم بالعملين فى نفس الوقت، عملية إدخال عجينة الرقاق وإخراج الرقاق الذى نضج بسرعة هائلة كما أنهن جميعًا متفقات على عمل عدد معين، وعند الانتهاء منه يبدأن إعادة المراحل مرة أخرى وذلك حتى إذا تعثرت إحداهما فى العجن أو الفرد لا يفسد باقى العجين، وبعدما يتم إخراج عدد كبير من الرقاق الذى نضج تضعه بجوارها فى «مشنة» ، فتبدأ من هنا العملية الرابعة وهى وضع الرقاق فى أكياس شفافة، كل كيس يحتوى على كيلو واحد حتى يسهل عليهن التعامل معه وبجوار مدخل العمارة فى «البدروم» تضع السيدة جميع الأكياس الممتلئة بالرقاق .. وفى ظل جلوسنا بجوارهن نتابع عملهن الممتع وجدت سيدة تحمل طفلها وجاءت لتأخذ 3 كيلو رقاق، فلم أندهش وبعدها بربع ساعة جاء رجل معه كرتونة ليحمل فيها عشرة كيلو فاندهشت وتركت زميلتى بجوارهن حتى أتتبع خطوات هذا الرجل الذى وجدته يأخذ الرقاق ويضعه فى مطعمه الخاص الذى يقوم بعمل المعجنات والبيتزا والفطائر.. وما زاد فرحتى هو إمكانيتى لشراء «رقاق» والذى سيكون أجمل رقاق تذوقته لأننى عشت أجواء صنعه، وأن كل «قطمة» ستعيد لى ذكريات طريقة عمله وسأتذكر مثابرة هؤلاء السيدات وتفانيهن فى عمل الرقاق. المهم وعندما دخلت مدخل العمارة وجدت زميلتى تحمل بكلتا يديها كيسين من الرقاق وتسرد لى أنها سألت عن هؤلاء الناس الموجودين والذين يأخذون الرقاق وخُيل لها أنهم من العائلة أو الجيران، ولكنها اكتشفت أن ربات البيوت من العائلة الواحدة وجدن لأنفسهن مدخل رزق قبل العيد وسألتهن كيف بدأن العمل بهذا الموضوع.. فردت إحداهن: لقد كانت أمى تخبز لنا العيش والرقاق دائمًا فى البيت ففكرنا وخاصة بعد أزمة الرغيف الماضية أن نخبز عيشنا بأيدينا وجمعَّنا ثمن الفرن واشتريناه، ثم بدأ الجيران يطلبون منا عمل المزيد لهم ثم المحلات المجاورة لنا، ثم بدأ الموضوع يتسع ويأخذونه لفروع أخرى حتى وصلنا من المرج إلى مدينة نصر، وتدخلت سيدة أخرى فى الحديث قائلة: نحن لا نعمل إلا قبل العيد بأسبوعين فقط، ونبدأ بشراء الدقيق ويتم الحجز من الناس ويأتون لاستلامه قبل العيد ببعض أيام كما ترون الآن.. فابتسمت أنا وصديقتى وطلبنا تصويرهن ولكن خجلت سيدتان منهن ووافقت الثالثة على التصوير بشرط عدم ظهور وجهها وفعلنا ذلك، وقبل المغادرة قالت إحداهن: «الرقاق اللى انكسر عمره ما يتصلح» نصيحة «خلى بالك منه» حتى يبقى له «لازمة»..