احتفل الأمريكان والإنجليز والفرنسيون وكثير من معاهد ومؤسسات وجمعيات السينما في العالم بمرور خمسين عاما بالتمام والكمال علي العرض الأول لفيلم «سايكو»، الذي يعد واحدا من أكثر الأفلام تأثيرا وحضورا في الذاكرة في نظر الكثير من الباحثين ومؤرخي السينما وعشاقها.. كما يعتبره البعض الآخر درة أعمال المخرج ألفريد هيتشكوك الذي أثرت أفلامه وصبغت السينما في العالم كله بطابع «هيتشكوكي» مميز ترك بصماته علي عشرات السينمائيين ومئات الأفلام من بعده. ولد هيتشكوك عام 1899 في بريطانيا بعد اختراع فن السينما بسنوات قليلة، وانضم إلي رواد هذا الفن منذ شبابه المبكر كمصمم ديكور ومساعد مخرج ثم كمخرج موهوب صاحب أسلوب، واستطاع أن ينقل فن السينما خطوات إلي الأمام، كما رسخ فكرة أن المخرج - وليس الممثل أو كاتب السيناريو - هو المؤلف الحقيقي للفيلم السينمائي.. وتميز هيتشكوك بوجه خاص في أفلام التشويق، وهو تعبير ارتبط باسم هيتشكوك أكثر من أي شخص آخر.. وتحت هذا التشويق الهيتشكوكي يمكن أن نجد عدة «تيمات» - موضوعات - تتكرر في أفلامه مثل الرجل البريء المطارد بتهمة لم يرتكبها، والمعارك بين الجواسيس والصراع بين الحب والواجب الوطني أو الأخلاقي، والمجرم السيكوباتي الذي يقتل لأسباب نفسية، بالإضافة إلي فيلمه الشهير «الطيور» الذي ينتمي لسينما الرعب من الكائنات المتحولة. من الصعب أن نحصر إنجاز هيتشكوك السينمائي في موضوع واحد، خاصة أنه قام بصنع ما يزيد علي خمسين فيلما علي مدار أكثر من ستين عاما من الإبداع المتواصل في السينما الصامتة والناطقة والأبيض والأسود والألوان.. ولكن من بين كل أفلامه هناك عدة أفلام حققت نجاحات غير عادية جماهيريا ونقديا منها «دوار» - أو «دوخان» - و«النافذة الخلفية» و«الشمال عن طريق الشمال الغربي» و«سيئة السمعة» و«غريبان في قطار» و«الطيور» و«ظل من الشك» وعلي رأس هذه الأفلام يأتي «سايكو» الذي كان عرضه في صيف 1960 حدثا لا ينسي في حياة ملايين الأمريكيين.. قبل أن ينتقل تأثيره إلي بلاد العالم الأخري. طبيعة هذا التأثير وأسبابه يحتاجان إلي بعض التفصيل الموجز الذي لا يمكن أن يغطي كل شيء لأن هناك دراسات ورسائل جامعية وكتب عديدة حول هذا الفيلم وأفلام هيتشكوك الأخري.. ويكفي أن أؤكد أن هيتشكوك يحتل المركز الأول بفارق كبير جدا عن أي شخص بعده في عدد الصفحات التي كتبت عن أي صانع سينما في العالم.. كما أن «سايكو» يحتل المركز الأول بين كل ما كتب عن هيتشكوك! قبل «سايكو» كان هيتشكوك قد رسخ اسمه في هوليوود - التي انتقل إليها في بداية الأربعينيات من القرن الماضي - كواحد من أكثر المخرجين شعبية.. رغم أن النقاد كانوا ينظرون إليه باعتباره مخرجا تجاريا لا يستحق اهتمام المثقفين.. ومن الجدير بالذكر هنا أن هيتشكوك رغم أفلامه الكثيرة التي تعتبر علامات في تاريخ السينما الآن لم يحصل علي جائزة الأوسكار علي الإطلاق، مع أن فيلمه «ريبيكا» حصل علي أوسكار أفضل فيلم التي تمنح للمنتج، وهذا التجاهل النقدي والأكاديمي - من الجامعة ومن أكاديمية علوم وفنون السينما - يبين النظرة السطحية التي كانت سائدة لأفلامه باعتبارها ترفيها تجاريا وليس فنا رفيعا. مع ذلك فإن النجاح التجاري والشهرة التي حققها هيتشكوك جعلت منه «أيقونة» - أي رمزا - لدي الجمهور الأمريكي خاصة بعد قيامه بتقديم سلسلة من أفلام الجريمة في التليفزيون تحت عنوان «ألفريد هيتشكوك يقدم». في نفس الوقت، ومع حلول عام 1960 كان هيشكوك قد تم اكتشافه وإعادة تقييمه من قبل عدد من النقاد الفرنسيين الشبان مثل فرانسوا تريفو وإريك رومير وكلود شابرول وجان لوك جوداز، المؤسسين لمجلة «كاييه دو سينما» - أو «كراسات السينما» - ومعظم هؤلاء تحولوا إلي مخرجين ورواد لما عرف باسم سينما «الموجة الجديدة» في فرنسا.. ومن هؤلاء انتقل الاهتمام بهيتشكوك إلي مجالات النقد الإنجليزي والأمريكي. كل هذه العناصر أعطت لهيتشكوك نوعا من الثقة المطلقة، والقدرة علي تقديم ما يرغب فيه رغم كل المعوقات.. وعندما وجد صعوبة في الحصول علي التمويل الكافي من استديوهات هوليوود لتمويل مشروع فيلم «سايكو» قرر أن ينتجه بنفسه.. واستفاد من عمله في التليفزيون ليصنع فيلما قليل التكلفة بممثلين وفريق عمل غير مكلفين .. وتكلف الفيلم حوالي 800 ألف دولار.. ولكنه تحول إلي أنجح فيلم صنعه هيتشكوك، حيث حقق في عرضه الأول في أمريكا فقط ما يزيد علي ثلاثة ملايين دولار! في «سايكو» أعاد هيتشكوك تعريف سينما الرعب وقدم قصة لا تنسي ومشاهد حفرت في أذهان ونفوس الملايين منذ ذلك الحين.. ومن ممن شاهدوا الفيلم لا يذكر مشهد القتل تحت الدش، حين يباغت القاتل بطلة الفيلم الجميلة جانيت لي ويقتلها قبل نصف ساعة من بداية الفيلم، مما يشكل صدمة مضاعفة للمشاهدين الذين لم يألفوا فكرة موت البطل في منتصف أو ثلث الفيلم!.. ومن يمكن أن ينسي مشهد قتل التحري الخاص بطعنة بالسكين في رأسه وسقوطه متدحرجا علي السلالم.. أو مشهد «السيدة بيتس» - الهيكل العظمي المحشو بالقش - عندما تستدير لمواجهة الجمهور في نهاية الفيلم.. أو مشهد أنطوني بيركنز، الممثل الوسيم الجذاب وهو يرتدي ملابس أمه ويصرخ كالمجنون عند القبض عليه. ورغم أن هيتشكوك صور فيلمه بالأبيض والأسود لكي يجنب مشاهديه منظر الدم، كما اعتمد في مشهد القتل تحت الدش علي القطع السريع حتي لا يظهر الجسد العاري للممثلة، وكان يهدف أيضا إلي تجنب الصدام مع الرقابة علي الأفلام التي كانت تمنع مثل هذه المشاهد وقتها.. إلا أن الفيلم تسبب في رعب شديد للمشاهدين.. وكانت صرخاتهم تصل للشارع خارج السينما حيث كان يصطف المئات دائما لمشاهدة العرض التالي! لم يكن «سايكو» مجرد فيلم رعب رخيص، وإلا ما عاش طوال هذه السنوات، ولكنه عمل فني عظيم عن النفس البشرية التي يتنازع داخلها الخير والشر، وعقد الطفولة القديمة، وهو فيلم عن الإنسان ومخاوفه في النصف الثاني من القرن العشرين، الذي انهارت فيه الخرافات والمعتقدات البدائية، وتبين أن الخوف الوحيد الحقيقي داخل الإنسان هو الخوف من نفسه!