البحث عن لحظة هدوء في بلاد الإنجليز «3» يا ناس «يا مكبوتة».. هيه دي الحدوتة! لا أنكر أنني استسلمت لفكرة أن أشحن روحي ونفسي بمشاعر دهشة وطفولة هنا في بلاد لا تتحدث العربية.. فهنا ندرك السهل الممتنع، فالناس هادئة.. رايقة إلي حد ما.. الشوارع وإن اكتظت بالسيارات لا يتذمر أحد أو يعلو صوته، أو تأتيك أصوات الكلاكسات من كل ناحية، فلا توجد هنا شبهة مرور شخصية مهمة أو وزير أو سفير أو حتي غفير يحرس عقار إحدي الشخصيات صاحبة النفوذ، فازدحام المرور في لندن لا يحدث إلا في ساعات عودة الموظفين.. تتراكم السيارات في الطرقات داخل المدينة، أما الطرق السريعة فلا مجال بها للازدحام، فقد صمم كل شيء بدقة شديدة لا تسمح بالتكدس، أما هنا في بلادنا فالتكدس والازدحام شيء طبيعي اعتدنا عليه نحن سكان القاهرة الصاخبة. كانت لحظات الهدوء في بلاد الإنجليز كثيرة جدا وبصحبة كذلك فيروز ومنير، ولأول مرة في حياتي أسافر فيها ويخالجني إحساس بالمرارة لم يفارق حلقي طوال الأيام العشرة، فالمعادلة سهلة جدا وبسيطة والالتزام بها لا يكلف أحد شيئا مادام كل منا يعلم حقوقه وواجباته وهذا هو سر الخلطة الإنجليزية، وكذلك سر الكيمياء المصرية. لأول مرة أسافر فيها وتحضرني كلمات العبقري بيرم التونسي وكلمات كتبها في الأربعينيات من القرن الماضي، عندما أصدر الملك فؤاد فرمانا بنفيه من مصر، حيث إنه لم يستطع أن يسجنه لأنه كان يحمل الجنسية التونسية والحماية الفرنسية وجاء قرار النفي بعد أن كتب بيرم قصيدة «القرع السلطاني» يشكك فيها في نسب الملك فاروق. أعود إلي كلمات بيرم التي لم أجد غيرها تعبر عن الحالة التي اجتاحتني: حاتجن يا ريت يا إخوانا ما رحتش لندن ولا باريس دي بلاد تمدين ونظافة وذوق ولطافة وحاجة تغيظ مالقتش جدع متعافي وحافي وماشي يقشر خس ولا شحط مشمرخ أفندي معاه عود خلفه ونازل مص أقرب من غني هذه الكلمات هو إيمان البحر درويش، وهذا حديثا، ولذلك قد يتصور البعض أن سيد درويش هو الذي غناها، لكن الصحيح أن عمنا زكريا أحمد هو الذي لحنها وغناها. فعلي الرغم من أنني سافرت معظم بلاد الدنيا خلال عمري فلم أقع في غرام أمريكا ولم تتمكن من ابتلاعي وكرهت كندا بلاد النظافة والطبيعة الخلابة ورفضت أن أنجب أطفالي في إنجلترا علي الرغم من أنني كنت مع طفلتي الأولي قد بدأت المتابعة مع طبيب نساء إنجليزي تمهيدا لعملية الولادة هناك، ولتحصل ابنتي علي الجنسية الإنجليزية، إلا أنني وفي الشهر الثامن قررت أن أرزق بطفلتي في بلادي وسط أهلي، حيث يدرك الجميع معني كلمة «الآه». ولأول مرة كذلك أشعر بالندم علي هذا القرار لأن بلادنا أصبحت تضج من أولادها، بل تلفظهم..أصبحت تستحق أن نعشقها نعم، لكن عن «بُعد»، أدركت لأول مرة تعبير بيرم «حاجة تغيظ»، فالجو والمناخ هنا أتاح لي فرصة اقتناص لحظات هدوء نفسي مع صوت فيروز ومنير.. وللحديث بقية. آخر حركة يا ناس «يا مكبوتة».. هيه دي الحدوتة.. حدوتة مصرية عبدالرحيم منصور.. أحمد منيب.. محمد منير