ارتدي محرر رئاسة الجمهورية سترة تشبه الفضة تلمع وتعكس أي ضوء واقترب مني مداعبا قائلا: إيه رأيك تيجي معايا جلسة مجلس الشعب ومعاك أوراقك وأقلامك علشان ترسم لنا شوية شخصيات مهمة من الوزراء أو المشهورين في الدولة وننشر رسومك مع مقالي الرئيسي الأسبوع ده. لا أذكر وأنا صغير بجواره وبالكاد في ملابس معقولة مناسبة للزيارة المهمة أن نمر سويا بعد الجلسة تحت القبة إلي البهو الفرعوني الشهير لنجد عن قرب بعض هذه الشخصيات جالسة داخل فوتيل أو أريكة أو كنبه.. زميلي الصفوي الكبير يوزع اهتماماته وأسئلته علي الهواء ليستقبل بعض الإجابات ويدوّن في نوتة صحفية صغيرة بقلم حبر أنيق فضي أيضا وأنا أسير بجواره بالكاد وتصل أكتافي إلي ركبتيه أو حزام بنطاله. هو سريع وأنا أيضا.. هو يظن أن يدي بها كاميرا تلتقط بذات السرعة الوجوه أو الحركات أو بعض الملامح لكنه يجاريني ويسبقني وأنا ألهث خلفه وقد تعب ذراعي وأطراف أصابعي لألملم ما أراه في كراستي التي ستذهب إلي المطبعة مع مقاله أو حواره الأهم. فكرته خاطئة عن الرسام لأنه يعتقد أنه بديل للمصور الفوتوغرافي وأنا اغتاظ جدا لهذه المقارنة أو مجرد التفكير بأن الرسام آلة معدنية يحملها في يده وهو لايفهم أن الرسم لابد أن يمر بالقلب والشعور والإحساس وكذلك مع العقل والفكر والرأي. أصبحت ولدا رساما ولكني منزعج جدا ولم أستطع مناقشته أو إقناعه بهذه الحكاية ولكني كرسام ربما مبتدئ رغم تخرجه «جيد جدا» من الفنون الجميلة ورسومي المنشورة وأنا طالب تثير دهشة زملائي في الكلية وإعجابهم ماعدا أستاذي عزالدين حمودي الذي قال لي وأنا في درس الموديل العاري أمام زملائي.. قال بالحرف الواحد: الصحافة بوظتك. ولكني أكملت أسلوبي بالخط المتشابك دون اكتراث أو نوع من العناد الصعيدي البهجوري. أخيرا توقف زميلي الصحفي المختص بمواضيع رئاسة الجمهورية عن الركض والقفز هنا وهناك وجلس أمام اثنين يعرفهما جيدا وأعطاني مكانا علي فوتيل فارغ لأجلس وأخرجت كراسي من جديد وأخذت أرسم وأنا مرتاح نوعا ما للتعمق في الشخصيتين أحدهما عملاق في الطول ويقترب من ملامح الأفارقة ذوي الشفاه الغليظة والآخر سمين جدا في سترة أنيقة وربطة عنق تنحشر ما بين رقبته الغليظة وجسمه السمين أيضا. ولا أذكر إلا وأنا قد دققت في ملامحهما وكنت قد بدأت أتفوق في فن البورتريه واشتهرت في المجلة بذلك حتي أن رئيس التحرير أعطاني صفحتين كاملتين وأعطاهما عنوانا لطيفا «أخبارهم علي وجوههم» وكنت أضحك علي العنوان واستعمال الهاء عدة مرات. الأخبار يأتي بها اثنان من كبار صحفيي المجلة أحدهما إبراهيم عزت والثاني ممدوح رضا الذي أصبح في عدة سنوات رئيس مجلس إدارة لدار أخري. المهم الآن وخلال حوار صديقي الصحفي الكبير لرئاسة الجمهورية.. هذه المرة أعطاني الفرصة كاملة للرسم كرسم وليس كأنها لقطات فوتوغرافية. لكني فوجئت عند تقديم الرسم الأول للشخصية الكبيرة أمامي وهو العملاق الأسمر في ملامح أفريقية أن اسمه الليثي عبدالناصر وأنه شقيق الرئيس وهو محافظ الإسكندرية أو عضو مجلس الشعب عن الإسكندرية.. ومن نظرته الأولي للرسم وأنفه المنقارية تدخل الورقة بأنه لا يعي في فن الرسم أي شيء فكان ليس غريبا أن يكرمشها بأصابعه في غيظ شديد يبحث عن سلة المهملات لكن الذي غاظني أكثر من ذلك جملته: - الرسمة دي حكمنا عليها بالإعدام. فتمالكت نفسي ولم أنطق بحرف كلمة وكأني اكتفيت بأني شجاع في الرسم وانتقلت إلي الشخصية الثانية التي تتكون من دوائر إلي دوائر وشارب علي الجانبين حول كرة الأنف بالحبر الأسود وقال لي زميلي الصحفي ده محيي أبوالعزم محافظ الفيوم. إلا أنه فاجأني بذات النتيجة المؤلمة والجملة ذاتها بعد الكرمشة للورقة وقد رماها في حركة رشيقة كأنها كرة تدخل مرمي السلة.. سلة المهملات مع الجملة ذاتها: و.. دي كمان نحكم عليها بالإعدام. لم أهتم لأن تاريخ فن الكاريكاتير به قصص وحكايات مشابهة ومنها أن الرسم الذي يغضب صاحبه يكون دليلا علي نجاحه. انصرفنا بعد ذلك ولملمت أوراق كراستي ونحن نخرج من مجلس الشعب بعد أن كنا تحت القبة وكذلك مرورا بالبهو الفرعوني.. لكني عند الباب طلبت الإذن من زميلي الصحفي أن أذهب بسرعة إلي دورة المياه لأني في أزمة أو زنقة. ولكني في الحقيقة ذهبت بعد انصراف كل الناس تقريبا وتعرفت علي الركن الذي كنا فيه ووجدت داخل السلة مع عقب سيجارة قديم الورقتين مكرمشتين فتحتهما في العودة إلي باب الخروج واحتفظت بهما حتي الآن.