شيخنا الجليل الإمام الأكبر. لن تصدق مدي سعادتي وفرحتي الشخصية باختيارك شيخا للأزهر الشريف. فقد تتبعت خطاك منذ تعيينك مفتيا للديار المصرية عام 2003. وسعدت أكثر بتعيينك رئيساً لأقدم وأعرق جامعة في العالم عام 2004. وتابعت من خلال ابنتنا الغالية سها النقاش وهي تقيم حوارا ممتداً معك في قناة النيل للأخبار. كنت متحدثاً بسيطا وواضحاً تجيب عن أسئلتها الذكية والموضوعية، وإجاباتك استقرت في قلبي ووجداني لعالم كبير أنبتته أرض مصر الطيبة. ثم تابعت حواراتك المضيئة مع ابننا المذيع «عتابي» الذي حاورك واستوضح منك أموراً كثيرة، أضاءت عندي العديد من تساؤلات كانت تطوف بمخيلتي وبذهني عند قراءتي للتراث والتاريخ الإسلامي. كما أن التليفزيون المصري والجرائد احتفت بصدور القرار الجمهوري بتعيينك شيخاً للأزهر الشريف وإماما أكبر للمسلمين. وتابعت حوارا شيقا بين المذيعة المتميزة إيمان الحصري والمذيع أحمد عتابي عنك يوم تعيينك مع اثنين من علمائنا الأفاضل، وكان حديثا ممتعاً ومفيداً. شيخنا الجليل عرفت عدداً لا بأس به من شيوخ الأزهر الأجلاء الذين كانت لهم في حياتي مواقف، جعلتني أتتبع خطاهم وأكن لهم التقدير والاحترام للعلم الغزير والفهم الدقيق للأمور وبالتحديد أمور المثقفين وللفتاوي المستنيرة ذات القيمة العلمية العالية والتي لا تخرج إلا من عقول علماء يسيرون في طريق الحق والعدل والنور. أذكر من شيوخنا الأجلاء الشيخ حسن مأمون الذي كان شيخا للأزهر الشريف وزميلي وصديقي الدكتور مصطفي محمود يكتب سلسلة مقالات في مجلة روزاليوسف بعنوان: «الله والإنسان». وتتبع أبناء الأمة العربية في مصر ولبنان والسودان وسوريا والعراق والمملكة العربية السعودية والمملكة الأردنية الهاشمية وفي المغرب وتونس وحتي الجزائر التي كانت محتلة من الفرنسيين، ولكننا نلتقي بأبطال المقاومة في مقهي ريش الشهير بميدان سليمان باشا سابقاً - طلعت حرب اليوم - وكانوا يتابعون مقالات مصطفي محمود في روزاليوسف عن «الله والإنسان»، ويتناقشون معنا حولها. وقام بعض مشايخ الأزهر الشريف بتكفير الدكتور مصطفي محمود وطالبوا بمحاكمته وأرسل الزعيم جمال عبدالناصر الموضوع إلي الإمام الأكبر الشيخ مأمون الذي عكف علي قراءة الكتاب قراءة متأنية ودقيقة وعميقة، وجاءت فتواه المستنيرة لتكون وثيقة فكرية لرؤية رجل الدين المستنير لاجتهادات المفكرين والكتاب. وأنقذت هذه الفتوي مصطفي محمود من المحاكمة والتكفير، ونشرت الجرائد والمجلات فقرات من تلك الفتوي الرائعة المليئة بالعلم والفكر المستنير والتقوي والفهم الصحيح للإسلام. أتمني لو أن الصحف والمجلات التي تصدر اليوم تبحث في مجلدات الفتاوي لإعادة نشرها حتي يعلم أبناء الجيل الحالي قدر شيخ الأزهر الشريف والإمام الأكبر حسن مأمون. كذلك أذكر المحاكمة التي حاول بعض مشايخ الأزهر إثارتها بعد صدور كتاب المفكر والشاعر والروائي الكبير عبدالرحمن الشرقاوي بعنوان: «محمد رسول الحرية». هذا الكتاب ياشيخنا صادره الأزهر الشريف، ولكن تصدي لهذه المصادرة الإمام الأكبر في ذلك الوقت وأعتقد إن لم تخني الذاكرة كان الشيخ شلتوت. دافع الإمام الأكبر عن هذا الكتاب الذي كتبه عبدالرحمن الشرقاوي عن نبي الإسلام الكريم للذين يدينون بديانات أخري مثل المسيحية واليهودية والذين يتبعون تعاليم بوذا وللهندوس. كان المفكر الإسلامي الكبير عبدالرحمن الشرقاوي يخاطب غير المسلمين في كتابه: محمد رسول الحرية. وجاء قرار شيخ الأزهر الشريف بالإفراج عن الكتاب الذي ترجم للعديد من اللغات، ومازال تراث عبدالرحمن الشرقاوي لا يجد من يتعاقد علي طباعته رغم اهتمام الناس في جميع البلدان العربية به، وبالأخص كتبه عن الأئمة وعن عمر الفاروق وعن الحسن والحسين ومسرحياته العديدة وفي مقدمة كل هذه الأعمال تظل القصيدة الشهيرة «من أب مصري للرئيس ترومان» هي الأشهر في أعمال عبدالرحمن الشرقاوي الأدبية والإسلامية. وأستطيع ياشيخنا الجليل أن أذكر لك مواقف شيوخنا الأجلاء في الحياة المصرية.. ولعلك تعرفها أكثر مني، ولكني أجرؤ علي كتابتها لك لكي أذكر القراء بها وأدعو الله لك بعلمك الغزير أن يذكرك التاريخ بأمثلة ومواقف تؤثر في حياة المصريين بل أتعدي ذلك وأقول في حياة المسلمين أجمعين الذين يصل تعدادهم اليوم إلي ما يقرب من مليارين. بقي شيخ واحد وغيره كثيرون أحب أن أذكره أمامك، لأنه كان السبب في نهضة مصر بما قدمه من نصح إلي الشيخ الأزهري الذي وقع عليه الاختيار ليصحب الأمراء في البعثة التعليمية إلي فرنسا.. إنه الشيخ الجليل حسن العطار الذي استدعي الشيخ رفاعة إلي مكتبه بعد ترشيحه لمصاحبة الأمراء إلي فرنسا، وقال له: اسمع ياشيخ رفاعة أنت ذاهب إلي بلد كثر فيها العلم والثقافة والأدب وأيضاً اللهو، ولك أن تختار طريق العلم والمعرفة أو طريق اللهو، واختار الشيخ رفاعة الطهطاوي طريق العلم والمعرفة، وكانت نصيحة الشيخ الجليل حسن العطار هي السبب فيما تنعم به مصر اليوم من علم وفن وتقدم مما قدمه الشيخ رفاعة في كتبه التي ترجمها. أما الشيخ أحمد حسن الباقوري والشيخ المراغي فهما بلدياتي ولهما مواقفهما الشهيرة أيام الملك فاروق وأيام جمال عبدالناصر، وهي ليست خافية علي أحد. كل ما سبق ذكره يا شيخنا الجليل كان مقدمة للآمال والطموحات التي أعلقها عليك يا ابن الشيخ الطيب الذي يعرفه أبناء الأقصر والقرنة ودندرة. فمنزلك يا مولانا الإمام الأكبر يقع في الطريق إلي معبد حتشبسوت بالبر الغربي.. وأحمد الله أنك كنت مع أهلك وبين عشيرتك ومحبيك عندما أعلن الرئيس محمد حسني مبارك قبل عودته بالسلامة إن شاء الله قرار إختيارك شيخاً للأزهر الشريف. وصادف يوم اختيارك يوم الاحتفال بعودة طابا لمصر، وأيضاً احتفال أبناء مصر وبناتها بعيد الأم، أيام مباركة نعيشها يا شيخنا الجليل،وأيضاً اختيارك كان يوماً مباركاً بما نأمله أن يتحقق علي يديك وبعون الله ليسترد الخطاب الديني النابع من قلعة المعرفة والعلم الأزهر الشريف وضعه بين المسلمين ليس في مصر وفي بلاد العرب فقط ولكن في جميع بلاد المسلمين حول العالم. علمت من الصحف أن ملف التعليم سيكون في أولوياتك وهذا شيء محمود وبداية موفقة، لكن هناك ملفات أخري تنتظرك ويأتي في مقدمتها تحديث آلية العمل في الأزهر الشريف.. أعلم أن ثورة المعلومات وثورة التكنولوجيا دخلت الجامعة الأزهرية، لكن ليس بالقدر المأمول. فالأزهر الشريف وجامعة الأزهر هي المنبر الذي يتوجه إليه المسلمون وغير المسلمين لمعرفة العلوم الدينية والحوار حول تقارب الأديان وتقارب الحضارات. هذا المنبر لن يصل صوته إلا بتكاتف علماء المسلمين واجتهادهم الذي يتفاعل مع ما يجري حولنا في العالم بفكر مفتوح وعقل مستنير وقلب مؤمن وباستعمال التكنولوجيا الحديثة. إن إنشغال المسلمين (البعض منهم) بالشكليات دون الغوص في المضمون أمر مؤسف ويجعلنا نقع في براثن أمور تافهة لا تضيف إلي تراثنا، بل تأخذ منه وتشوه صورة الإسلام والمسلمين. لابد أنك خلال سنوات عملك كرئيس لجامعة الأزهر الشريف قد صادفت أبناء لك وبنات من المتفوقين الذين أضاء الله عقولهم ولديهم الحرص علي المعرفة والانكباب علي البحث العلمي والاجتهاد. لهذا يا مولانا الشيخ الجليل أتوقع إنصاف هؤلاء المتفوقين ذكوراً أم أناثا بإرسالهم في بعثات إلي المانياوفرنسا ليستزيدوا من المعرفة والأبحاث التي يجريها الآخرون في علوم المسلمين. إننا في حاجة شديدة للتواصل والاهتمام ومعرفة الفكر الذي يتناوله المسلمون في جميع بلدان الإسلام. كما أن المسلمين الذين يعيشون في أوروبا وأمريكا اليوم يعانون من جراء ظروف ليس لهم دخل بها، والأزهر الشريف هو الذي يقود المسلمين في جميع أنحاء العالم نحو التعامل مع الآخر والحوار مع الذي يختلف عنهم فهذا أمر واضح في الإسلام (لا فضل لعربي علي أعجمي إلا بالتقوي). وإنني أقترح يامولانا الإمام الأكبر تعيين مكتب فني من شباب الأزهر من بين الذين يجيدون اللغات ليرصدوا للمشيخة كل ما يجري في بلاد المسلمين حول العالم، وكل ما يدور من أبحاث أو اجتهادات، وجميع الكتب التي تنشر عن الإسلام. إن المسئولية الملقاة علي عاتقكم في هذا الزمان الذي تتغير فيه العلوم والفنون والإنجازات والتكنولوجيا يوما بعد يوم، يحتاج أن يكون مكتب شيخ الأزهر عامرا بشباب الأزهريين الذين يجمعون ما يهم الإسلام والمسلمين حول العالم. شيخنا الجليل صدر القرار الجمهوري، ووضعت المسئولية حول رقبتك وفي عنقك، وأنت رجل عالم وزاهد، وتعرف من خلال علمك واجتهادك الإسلام والمسلمين، كما أنك بحكم النشأة في البر الغربي تعرف غير المسلمين سواء كانوا من أبناء بلدك أو من بلاد الفرنجة، ولقد عرفتهم وخالطتهم وزرتهم في بلادهم، أما أقباط مصر فأنت تعرفهم منذ صباك ويحمل الأقباط لوالدك الذي له نصيب كبير من اسمه كل تقدير وإجلال واحترام، ويعلم سكان الأقصر والقرنة ودندرة وقوص كيف كان الأقباط والقسس والرهبان يذهبون إلي والدك يطلبون منه المشورة وحل مشاكلهم مع الآخرين. ولعلك شهدت كما شاهد الكثيرون الأقباط في الأقصر يسيرون في جنازة الوالد يتقدمهم القسس والرهبان لأنه أحبهم وقضي حاجاتهم وعاملهم بالحسني وأحسن إليهم. شيخنا الجليل وعالمنا الكبير، الجميع في مصر يدعون لك بالتوفيق ويطلبون من الله أن يتحقق علي يديك الفهم الواضح للإسلام كما جاء في الآية الكريمة: «ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا إنا نصاري ذلك بأن منهم قسيسين ورهباناً وأنهم لا يستكبرون» صدق الله العظيم. فرحتي بتعيينك صادقة وأدعو الله أن يسدد خطاك وعلي طريق العلم والمعرفة تسير وأتوقع منك الكثير وفي المقدمة نهضة الأزهر الشريف الذي نفخر بأنه في أرضنا ومن خلاله نقود العالم للمعرفة والتقدم والسلام.