السعادة عدوي، والكآبة عدوي أيضاً!! والمثل الشعبي البسيط يقول لك ناصحاً: جاور السعيد تسعد!! وكل علماء النفس وخبراء النفس البشرية يؤمنون بهذا المثل ويدعون له، عن قناعة وإيمان، وينصحونك بتجنب الأخبار المؤلمة والمؤسفة، والابتعاد عن عشاق النكد والكآبة وما أكثرهم حولنا في الحياة، في البيت والشارع وأماكن العمل، ومقالات الصحف وبرامج الفضائيات، ووسط زملاء المهنة والوظيفة!! ما الذي يجبرك عزيزي المواطن: قارئاً ومشاهداً أن تقرأ وتشاهد كل هذا الكم من الكلام الفارغ والتافه الذي يصدعونك به طوال ساعات الليل والنهار، كتابات وتحليلات ومناقشات وضيوف تجعل حياتك أكثر سواداً من قرن الخروب، وتسحب من حولك كل أوكسجين الدنيا، ولا يتبقي لك إلا سموم ما قالوه وكتبوه وأيضاً ثاني أوكسيد الكربون، وعوادم أخري لا أدري اسمها!! كتيبة المحبطين والمكتئبين لا تترك مناسبة إلا وتشارك فيها بحماس لا نظير له تحت شعار لا يتخلون عنه أبداً وهو مفيش فايدة! ولا أعرف كيف تسللت هذه الكتيبة من المحبطين والمكتئبين والمتشائمين وعواجيز الفرح إلي صفحات الصحف وشاشات الفضائيات، حيث تحولوا إلي مفكرين وخبراء ومحللين استراتيجيين، لديهم الحكمة والعلم والرأي والخبرة والعمق لكي يتكلموا في كل شيء!! مع كل أزمة ومشكلة بسيطة أو عويصة، تجد هذه الكتيبة وقد انتفضت واستعدت بكل ما تملكه من جهل وكآبة وكراهية للحياة، وينقضون عليك بكتاباتهم أو طلعتهم البهية، وهات يا دش ورغي وجهل وسخف، ولا يهدأون إلا بعد أن يحيلوا حياتك وحياة أهلك إلي جحيم وسواد لا شبيه له حتي لو كان جحيم دانتي نفسه!! حادث فردي بسيط بين مسلم وقبطي يتحول عند أفراد هذه الكتيبة إلي اضطهاد وقمع وتمييز وغياب للمواطنة، وانتهاك لحقوق الإنسان، ومناشدة لضمير الشرفاء في العالم بالتدخل لحماية الأقلية من ظلم الأغلبية! نفس أفراد هذه الكتيبة، تجدها في مساء اليوم التالي وهي تتحدث عن خطايا حسن شحاتة- وكان ذلك قبل السفر إلي أنجولا- وتتسابق في الكلام والحديث عن إفلاس المعلم شحاتة، وتخبطه في طرق اللعب ولماذا يلعب بأربعة أربعة اتنين ولماذا لا يجرب اللعب بأربعة ثلاثة اتنين واحد! عشرات البرامج ومئات المقالات ضاعت وأضاعت وقتنا في الدفاع عن ميدو الذي استبعده المعلم وجامل بدلاً منه ولداً مغموراً اسمه جدو. وعندما حقق حسن شحاتة والمنتخب معجزة الفوز بكأس الأمم الأفريقية عن جدارة واقتدار ولعب ومهارة وتخطيط وذكاء اندهشوا بل فوجئوا، وعندما حقق اللاعب المغمور جدو لاعب الاتحاد السكندري مفاجأة البطولة فأصبح هدافها خمسة أهداف راحت نفس الكتيبة تعزف علي نغمة مغايرة ركوباً للموجة العارمة من الزهو والفرح وكان ملخص كلامهم: أن جدو لاعب عالمي مكانه بين الكبار.. وكذا وكذا.. ويصل العبث مداه حين يؤكد أحدهم أن سر انتصارات حسن شحاتة والمنتخب هو استعانته بشيخة هي السر في كل هذه الانتصارات!! ومن عالم كرة القدم إلي عالم الوطن الرحب الفسيح، ستجد نفس أفراد الجوقة بنفس اللحن والكلام والتوزيع الموسيقي، فكل شيء انتهي وراح وانقضي!! لا ناس ولا وطن!! ولا أمن ولا أمان!!، فالهواء ملوث، والماء ملوث، والنفوس ملوثة، والضمائر ملوثة، والأسرة ملوثة، والمدرسة ملوثة!! ولا نهاية لكل هذا الكلام عمال علي بطال!! لقد اختفت حكمة ذهبية من حياتنا تعلمناها وحفظناها عن ظهر قلب تقول: إذا كان الكلام من فضة فالسكوت من ذهب!! هذا الكلام كان زمان، لكن الآن أصبح الكلام- أي كلام- يجلب لصاحبه الفلوس والنفوذ والشهرة، وأصبح أصحاب الصوت العالي في كل المجالات هم نجوم وأبطال الكلام والهمبكة والفهلوة، والبرامج والفضائيات والمقالات. ووسط موالد الكلام- المكتوب والمرئي- ينشغل الناس بهذه المعارك الكلامية، ونظل نلف وندور حول نفس المشاكل المزمنة، أمس واليوم وغداً، لا أحد يشغل نفسه بقضايا جادة تهم الناس، لأنها قضايا دمها ثقيل، كم دقيقة ضاعت في مناقشة مرض الأمية مقابل آلاف الساعات ضاعت في قضية سوزان تميم!! كم دقيقة جادة ناقشنا فيها قضية أحوال التعليم مقابل آلاف الساعات التي ضاعت في مناقشة أحداث مباراة كرة قدم جرت وقائعها في أم درمان منذ شهور.. وكم دقيقة ناقشنا فيها قضايا الاحتباس الحراري مقابل مئات الساعات التي ناقشنا وحللنا فيها دلالة ومغزي انهيار المواطنة وسيادة العولمة في أغنية هيفاء شوف الواو.. بوس الواوا!! واللي يعيش ياما يشوف!! لكن المصيبة هيشوف إيه ولا إيه؟!