أستعيد سنوات عمري، مثل فيلم سينمائي يدور أمام عيني، لا أعرف إن كان بالألوان الطبيعية أم بالأبيض والأسود، كل ما أستطيع تذكره تلك المساحات الرمادية الكبيرة والممتدة في معظم شريط الذكريات.. هكذت تبدو الحياة، اللون الأبيض فيها نادر والأسود أكثر والرمادي هو السائد. يقولون إن الأبيض والأسود هما أهم ألوان الحياة، لكن في شريط حياتي ألوان أخري، الأحمر بلون الصراعات، الأزرق بلون الحياة التي أبحث عنها دائما، الموف الفاتح هو لون المشاعر التي أحبها.. لكن الغريب أنه حين تأملت كتاب حياتي لم أجد فيه كل هذه الألوان.. فقط درجات الأسود والأبيض. لماذا لا يرضي الناس عن حياتهم دائما؟.. ولماذا يحاولون الهروب منها، أو البحث عن حياة أخري.. رغم أن تقبل مفردات الحياة وتواليها هو الخطوة الأولي للتعايش معها؟ أعرف صديقا باع كل ما يملك واشتري قطعة أرض في وادي الريان بالفيوم، وبني بيتا بدائيا، بجواره فرن بلدي، يربي الطيور ويزرع بعض الخضروات ويعيش حياة بوهيمية.. سألته هل كان يخطط أن تنتهي حياته بهذا الشكل؟ أجاب: لماذا تعتبرها نهاية حياة.. لماذا لا تقل إنها بداية حياة! صديق أخر استقال من عمله بشركة بترول وذهب إلي مسقط رأسه في إحدي قري الدلتا حيث يعيش في بيت العائلة القديم.. ذهبت لزيارته فوجدته يرتدي جلبابا، ويلف رأسه بكوفية كبيرة عريضة، تخفي معظم ملامحه.. لكنه علي الأقل اتخذ قرارا بتغيير مجري حياته.. سألته هل استسلمت؟.. أجاب بل انتصرت! علي طريقة أصدقائي وطريقتك أخذت نفسي وعدت إلي مسقط رأسي في مدينة المحلة الكبري، في اليوم الأول شعرت براحة غريبة لم أعشها منذ سنوات.. في هذا الشارع كنت أخطو خطواتي الأولي في الحياة.. علي ساق هذه الشجرة حفرت أول قلب وكتبت عليه الحرف الأول من اسمي والحرف الأول من اسم أول حب في حياتي. أحسست أن شيئا ما يتغير بداخلي.. هل عدت إلي مرحلة الطفولة والشباب.. أم عادت هي لي مرة أخري.. ها أنا أفتح صفحات الكتاب القديم.. وما أجملها.. حين كانت الحياة بسيطة بدون مطالب أو تبعات. أجريت اتصالا هاتفيا مع زوجتي أخبرتها أنني سأمكث عدة أيام.. وربما أكثر من أسبوع.. قضيت الليل بطوله علي المقهي الذي طالما جلست عليه.. فتشت عن أصدقاء الطفولة وسهرنا حتي الصباح نلعب ستميشن.. استيقظت عند ظهر اليوم التالي، وخرجت إلي الشارع فورا.. بدا كل شيء مختلفا، الشوارع تبدو أصغر مما كانت عليه.. المدينة ضيقة وتكاد تخنقني.. هل تغيرت الجغرافيا أم تغير عالمي.. شيئا فشيئا بدأت الأماكن والمشاهد تضيق، حتي تكاد تخنقني! قبل حلول الليل كنت قد حزمت حقائبي وقصدت محطة القطار العتيقة أستقل نفس القطار الذي أخذته أول مرة وأنا في طريقي للالتحاق بجامعة القاهرة.. وفي القطار أغلقت كتاب حياتي .. وقررت العودة إلي الواقع بصخبه وألوانه غير المدرجة في لائحة الألوان الطبيعية!