ما يشغلنى فى الأزمة العربية الكبرى السابقة والآنية واللاحقة لمباراة كرة القدم بين المنتخب المصرى والمنتخب الجزائرى هو شىء واحد ألا وهو غياب العقل. غياب العقل لدى الطرفين وليسامحنى أبناء بلدى، فالصراحة واجبة فى هذه الأحوال واللعب على مشاعر الناس وتملقها بل تهييجها جريمة سيدفع ثمنها المشجعون والجماهير المتحمسة، وسيخرج منها المهيجون بلا خسائر لأنهم قادرون على تغيير اتجاهاتهم 081 درجة بمنتهى البجاحة والفجاجة وانعدام الضمير وانعدام المهنية. منذ انتهاء مباراة مصر مع زامبيا بتاريخ 01 أكتوبر والإعلامان المصرى والجزائرى يقودان معركة حربية وليس مباراة كرة، والنتيجة هياج فوضوى بين مشجعى كرة يعيشون من أجل الكرة، ولا شىء يشغلهم فى الحياة سواها فهم فى الغالب إما تلاميذ يعيشون على مصروف أهلهم أو متعطلون يجلسون على المقاهى فى انتظار أى حادثة تفجر مشاعرهم الغاضبة. إلى هنا والأمر غير طبيعى وغير مقبول، لكنه ينحصر فى أعداد محدودة لمشجعين متعصبين من الجانبين، ولكن الأخطر قد حدث مع صفارة نهاية مباراة مصر والجزائر فى القاهرة، حيث تحول الأمر إلى معركة كلامية بين الشعبين تدخل فيها مسئولو الاتحادين والفنانون وأعضاء الأحزاب وأعضاء مجلسى الشعب والشورى وبعض رجال السياسة وتحول الشحن الجماهيرى من ضرورة أن نشجع إلى ضرورة أن نفوز. واختلط الحابل بالنابل وانفتح باب المزايدات وتصوير الحكاية من أن الفوز فى مباراة كرة قدم يعنى الانتصار فى مجالات الثقافة والفن والتعليم، بل السياسة وباختصار من سيفوز فى هذه المباراة الفاصلة التي ستقام فى السودان يكون هو الشعب المنتصر المحقق للكرامة ومن سينهزم سيحمل عار الهزيمة على كتفيه طوال تاريخه ولابد أن يعيش فى ذل وضيم إلى أن يجتمع الفريقان مرة أخرى وتدور المعركة مرة أخرى. وإن كان العقل قد غاب فى الشحن المصرى لمعركة المباراة فقد اختفى تماما وحل محله الجنون فى الجانب الجزائرى، وأعد الجزائريون للمعركة بكل دقة فإذا لم يحسم الأمر فى المستطيل الأخضر لابد أن يحسم فى الشارع السودانى بمعركة بين الجمهورين يقع فيها القتلى والأسرى بالسكاكين والسواطير. وحدث ما حدث فى الشارع رغم فوز الجزائر فى المستطيل الأخضر، وهنا تحولت معركة الكرامة بين شعبين، وانطلقت الحناجر لتكفير العروبة والأخوة وأصبح من ينطق كلمة أشقاء خائنا ليس مصريا وليس جزائريا، بل هو يهودى عدو يريد الهزيمة. وغاب العقل تماما فلم نسمع عن أحد يبحث ويحلل ويدلنا ماذا نفعل الآن؟ وأصبح حرق العلم مبادرة يسرع إليها المحامون فى كل من البلدين، ورفع القضايا بطرد المصريين من الجزائر والجزائريين من مصر المقابل الموضوعى لحب البلد والدفاع عن كرامة الشعب، وكاد الشرر يصيب السودان لولا التدخل السياسى. لقد قضيت عمرى كله أومن بالعروبة ونصف عمرى المهنى فى الكتابة عن القضايا العربية، واكتشفت أن عمرى الحقيقى والمهنى قد ضاعا فى الوهم، وإن كنت قادرة على تحمل الفشل المهنى بأدوية الاكتئاب، فإننى غير قادرة على استعادة عمرى بحكم سنة الكون، وسوف أدخل كهوف غياب العقل وأنام!