اختلاف الرأى لا يفسد للود قضية.. عبارة نرددها دائما.. إلا أن أى موقف نقاش بين طرفين يجعلنا نتأكد بأننا مثل تلاميذ المدارس نردد العبارات والجمل الإنشائية دون أن نفهم معناها.. فلا يكاد يختلف اثنان تجاه موقف معين حتى يعلو الصراخ رغم أنهما فى حوار مسالم.. والمفترض أن للإنسان حرية التعبير عن رأيه حتى وإن كان مخالفا للرأى الآخر ولكن الواقع أن مؤشر الحوارات العربية عموماً - إلا فيما ندر - هو الصوت العالى ومقاطعة الطرف الآخر وتدريجيا ينتقل النقاش من الموقف أو المبدأ إلى شخصية المتحاورين وخصوصياتهم فيبدأ كل طرف فى تجريح الطرف الآخر وإظهار مواقف قديمة تدينه أمام الجمهور ولا أقول إن هذا ما يمارس أمامنا على شاشات التليفزيون وعبر القنوات الفضائية فقط جذباً لانتباه المشاهدين أو لتسخين البرنامج بلغة الإعلام، بل إنه يمارس فى حياتنا بشكل عام. - جرب، وأنت فى أى مجلس أن تعبر عن رأيك الذى يخالف البعض بصراحة وانظر ماذا يحدث؟ فى النهاية ستتعلم الدرس ألا تفتح فمك وتقول رأيك المخالف للآخرين مرة أخرى وإلا.. - هى بالتأكيد أصبحت ظاهرة، تعلن عن نفسها أكثر ما تعلن عند التطرق للدين ومظاهره التى تخرق العيون بعد أن أصبح الخطاب الدينى عالى النبرة على كل المستويات.. وبرزت فئة من المتصدين للفتاوى الدينية من ذوى الصوت العالى يحرمون كل شىء ويكفرون كل من يخالفهم فى الرأى وانتشروا على شاشات التليفزيون وفى المساجد بل وفى المنازل، فخلقوا تياراً يخالف ناموس المجتمع ولكنه يعلن عن نفسه دائما بالصخب والصوت العالى حتى لايكون فى الساحة سواه فيفرض رأيه على كل ماعداه. ولأنها موضة فقد ظهرت أول ماظهرت فى طبقات المجتمع الأكثر رفاهية، حيث انتشرالاتجاه إلى التدين وإلى الدروس الدينية التى يقدمها شيوخ جدد لم نكن نعرفهم من قبل واتجه الشباب والمراهقون بشكل خاص إلى حالة تدين عنيفة نتيجة لظروف وصراعات كثيرة ومتشابكة يمرون بها فى هذه المرحلة العمرية الانتقالية.. وهى ظاهرة تصدق فى كل المجتمعات البشرية ولكنها فى المجتمع المصرى لها زوايا أخرى، فقد اختفت الطبقة الوسطى المثقفة وأصبح النظام الطبقى مليئا بالتناقضات مع وجود ظاهرة ثراء فاحش بلا سبب واضح، تغلفها ثقافة ضاغطة، وتضخم وهيمنة فكر من عادوا من دول النفط، بما يسمى الإسلام الخليجى، حيث تصوروا أن الثروة جاءت لهذه البلاد بسبب تدينها وارتداء نسائهم الحجاب بل والنقاب أيضاً، بالإضافة إلى عدم وجود وعى ثقافى وفكرى جماعى وحالة من التصارع الشديد لدى الجميع للوصول الى الثراء أو حتى الحصول على مستوى معيشى كريم. - وهكذا أصبح الاهتمام بمظاهر الدين دون جوهره نوعا من التعويض النفسى عن حالة الضياع والغيبوبة التى يعيشها المجتمع ككل خصوصاً الشباب كمهرب من شعور عائلى بالذنب، مصدره اعتقادهم أن ثروة آبائهم قد تكون حراما بالمعنى الدينى والأخلاقى والقانونى، إنه نوع من التكفير عن ذنب حتى لو لم يقترفوه، وهى حيلة دفاعية نفسية معروفة فى علم النفس: يصلى عسى أن يتطهر من هذا الرجس.. فالإنسان عموما يتجه للدين عندما يشعر بالذنب، خاصة فى ثقافتنا المنافقة، التى يعتقد فيها الحرامى أنه سيطهر أمواله إذا تصدق منها وأقام موائد الرحمن.. وللأسف فإن الإفراط فى هذه الدروشة الدينية، ستكون نتيجتها مضاعفات نفسية خطيرة تصيب المجتمع كله، وسيظل الأمر يتفاقم بنا إلى أن يصل إلى حالة عامة من الاضطراب النفسى الشديد.. وهذا بالفعل ما نشعر بوطأته جميعاً اليوم.. والقادم أشد وطأة.