عندما تزهق من مشاهدة الأفلام السينمائية الطويلة. أنصحك أن تشاهد الأفلام الروائية القصيرة والأفلام التسجيلية. فمع الأفلام القصيرة أنت تضمن التركيز والبلاغة.. ومع الأفلام التسجيلية أنت تضمن صدق الوقائع وكأنك تتصفح ألبوما من الصور التى تسجل أماكن وشخصيات لاتنسى. وأعترف أننى زهقت من ركاكة وتدنى الفكر والذوق فى بعض الأفلام المصرية الأخيرة، ولذلك شددت الرحال إلى الإسماعيلية تلك المدينة الهادئة الجميلة لكى أعيش أياما مع الفن الصادق فى مهرجان الأفلام التسجيلية والقصيرة فى دورته الجديدة (الثالثة عشرة) والتى تحتضنها بكل الحب مدينة الإسماعيلية حيث يقيم كل ضيوف المهرجان فى منتجع القرية الأوليمبية المطلة على قناة السويس وتتواصل عروض الأفلام التى شاركت بها. ؟ 14 دولة من جميع قارات العالم (23 دولة أجنبية و 9 دول عربية) فى نظام دقيق يرفض الإهمال والفوضى ويقوده الإدارى الفنان الناقد على أبوشادى مع مجموعة رائعة من المساعدين بالمركز القومى للسينما. وبحكم الخبرة بالوسط الثقافى والفنى اكتسب على أبوشادى الثقة والاحترام من الجميع واستطاع أن يؤسس لمهرجان الإسماعيلية قاعدة كبيرة من أساتذة وعشاق السينما التسجيلية سواء فى مصر والبلاد العربية أو من بلاد أجنبية. ولهذا كانت سعادتى بالغة أن أجد نفسى وسط مجموعة رائعة من الأصدقاء من ثنائى السينما التسجيلية عاصرتهم عبر سنين طويلة من عملى بالصحافة والنقد يجمعنا عشق السينما.. منهم من ظل راهبا مخلصا للسينما التسجيلية.. ومنهم من اتسع طموحه ليجرب فى السينما الروائية الطويلة مخرجا أو مصورا حيث الشهرة أوسع.. والمكاسب أكبر، وكثير منهم نجح وتألق ولكن لاينكر أن الفضل الأول يرجع إلى بدايته فى السينما التسجيلية. وقد ظلت السينما التسجيلية لفترة طويلة.. سينما مظلومة لا أحد يهتم بها من المسئولين.. وتركوا فنانيها يحاربون بأنفسهم لكى يجدوا مكانا لائقا لعرض أفلامهم والتواصل مع الجمهور.. مظلومين مهيناً وإعلاميا وماديا.. رغم أن الدولة تعترف بدراسة هذا الفن فى معهد السينما وتشارك فى المهرجانات العالمية بأفلام لهم وتحصد الجوائز.. لكن محليا فى الشارع المصرى لا أحد يعرفهم.. أو يرى أفلامهم.. لأن التليفزيون يتجاهلهم.. و لأن دور العرض السينمائى لاتعترف بأهمية أفلامهم!! وأذكر فى سنوات الثمانينيات عندما قدمت طليعة المخرجين الشبان الذى غيروا وجه السينما المصرية. تعمدت أن أكتب أنهم قدموا من (سينما الظل) أقصد السينما التسجيلية.. من هؤلاء المخرج عاطف الطيب صاحب فيلم (سواق الأتوبيس) والمخرج خيرى بشارة بفيلمه الأول (العوامة 07) والمخرج محمد خان وفيلمه (ضربة شمس) ومن المصورين محمود عبدالسميع سعيد شيمى رمسيس مرزوق طارق التلمسانى محسن أحمد.. وكلهم حفروا طريقهم بخبرة العمل فى السينما التسجيلية. ولعل أجمل لفته قدمها مهرجان الإسماعيلية.. هى إعادة عرض الفيلم الملحمى الطويل عن نهر النيل والذى أبدعه المخرج الكندى (جون فينى) تحت اسم (ينابيع الشمس) راصدا رحلة النهر من منابعه إلى مصبه من خلال كاميرا الفنان الكبير المصور الراحل (حسن التلمسانى) والذى كرمه أيضا مهرجان الإسماعيلية بعرض أحد عشر فيلما من تصويره أعادت لنا ذكريات بناء السد العالى وفيضان النيل وإنقاذ آثار أبوسمبل وملامح من فن الفلاحين فى قرية الحرانية التى اشتهرت بصناعة السجاد اليدوى ثم انتقل يرصد فى فيلم آخر عن فنان الإسكندرية سيف وانلى ثم فيلم آخر عن الفنان حسن حشمت. ورغم أن بعض هذه الأفلام مضى على تصويرها أكثر من خمسين عاما إلا أنها مازالت تحتفظ بقوتها وما تشيعه فى النفس من زهو ونشوة. إنها أفلام من واقع شديد القسوة ولكنها لاتدعو إلى لطم الخدود وذرف الدموع ولكن تدعو للتحدى والأمل.. وهذه عظمة السينما التسجيلية التى تستخلص من الواقع المر ما يعطينا القوة والإصرار للتقدم إلى الأمام وليس الهروب إلى الخلف!