فى الأيام الأخيرة حولت وزارة التربية والتعليم عددا من المعلمين للتحقيق بسبب تضمينهم آراء سياسية فى امتحانات نصف العام الدراسى، تتعلق بالمجلس العسكرى والثوار وحزب الحرية والعدالة (الإخوان المسلمون).. وفى نفس التوقيت أعلنت دراسة علمية أعدها المركز القومى للبحوث الاجتماعية بالتعاون مع المجلس القومى للمرأة، تصف نتائجها استغلال الحزب الوطنى المنحل لكوتة المرأة (تخصيص مقاعد للنساء) فى برلمان 2010ب«الغباء». واقعتان قد تبدوان بعيدتين عن بعضهما البعض، لكنهما تطرحان نفس السؤال: هل يتأثر «العلم» الذى يفترض فيه الحيادية والموضوعية بالأحداث السياسية وتغير مراكز القوى؟ وسؤال آخر يطرح نفسه بعد عام من الثورة: هل أصبحنا قادرين بالفعل على تقبل الرأى الآخر وتحمل نتيجة الممارسة الديمقراطية فى المدارس والبيوت وفى الشارع؟ السبب كان الأسئلة التى تضمنت - من وجهة نظر من نقلها - رأيا فيه تملق لصاحب السلطة أو الحزب الحائز على أعلى الأصوات فى انتخابات مجلس الشعب الحالية، أو رأيا معارضا للثورة ورافضا لسلوك بعض الثوار. * هتاف الصامتين وانتقد البعض سؤال التعبير الاختيارى الذى ورد فى امتحان الفصل الدراسى الأول لطلاب الصف الأول الثانوى بمدرسة أبوصير الثانوية بنين، التابعة لإدارة سمنود التعليمية بمحافظة الدقهلية، «اكتب رسالة للمجلس العسكرى تشكره فيها على حمايته للثورة المصرية، وتصميمه على حماية البلاد من كل عميل أو طامع، رغم ماتعرض له من إهانات». وفى حين يرى عبدالغنى أحمد محمود مدير إدارة سمنود التعليمية أن المفروض أن يبتعد المعلمون عن الموضوعات السياسية عند وضع الامتحان، وأن المفروض أيضا ألا نعود لعصر برقيات التأييد والمبايعة للحاكم، معتبرا ذلك ردة عن الثورة وأن الأمر محل تحقيق، إلا أنه يلتمس العذر للمعلم الذى وضع السؤال على اعتبار أن مثل هذه الأسئلة هى وسيلة لواضع الامتحان للتعبير عن رأيه بحرية كما كفلت له الثورة ذلك، على طريقة «هتاف الصامتين» التى رصدها عالم الاجتماع سيد عويس فى دراسته الشهيرة التى تحمل هذا العنوان، تعبيرا عن الجمل التى يكتبها المواطنون على الجدران أو السيارات أو غيرها للتعبير عن آرائهم. وهو ما أكده أيضا موجه عام الدراسات الاجتماعية بمديرية التربية والتعليم بالقاهرة يحيى أبوطالب، مشيرا إلى أن المعلمين يفتقدون طرق التعبير عن آرائهم لضعف نقابة المعلمين، فيجد بعضهم فى الامتحانات وسيلة للتعبير عن آرائهم، لكنه يفرق أيضا بين التعبير عن الرأى وبين توجيه الرأى الممنوع ممارسته داخل المدارس، مفضلا أن يبتعد التعليم عن تناول السياسة أو الدين. من ناحية أخرى ربط أستاذ أصول التربية بعين شمس طلعت عبدالحميد بين استمرار ورود مثل هذه الأسئلة فى الامتحانات بعد الثورة، وبين استمرار ما وصفه بعقلية صناعة القهر المسيطرة على وزارة التربية والتعليم وعلى تليفزيون الدولة معا، «العقلية المحافظة على خدمة السلطان، والتى تعلو فى المحافظات الريفية أكثر منها فى العاصمة والمحافظات الحضرية»، مشيرا إلى أنها عقلية انتهازية فى ذات الوقت، تضع عينها على عطايا السلطان أيضا، بحسب رأيه. * مواصفات الامتحان وتباينت آراء الخبراء على اعتبار أن تضمين الامتحان مثل هذه الأسئلة يطابق مواصفات الورقة الامتحانية أم يخالفها، رغم أنه يفترض أن مثل هذه المواصفات محددة بطريقة علمية لايختلف على تفسيرها. ففى حين قال صلاح العزازى مدير مديرية التعليم بالغربية إنه على الرغم من كون السؤال اختياريا يترك الحرية لمن أراد أن يرسل أو من لم يرد، إلا أن ذلك يخالف مهنيا مواصفات الورقة الامتحانية، والتعليمات التى أرسلت للموجهين بمراعاة الفترة التى تمر بها البلاد، بالابتعاد عن التعقيد فى وضع الامتحانات، وعدم فرض آراء سياسية بعينها على الطلاب، مؤكدا أنه إذا ثبت أن السؤال موجه لأغراض سياسية أو أفكار خاصة بواضع السؤال فسيتم اتخاذ الإجراءات القانونية حياله ومنعه من وضع أسئلة الامتحانات مستقبلا، «حتى لا تكون مدارسنا ساحة للنفاق السياسى» حسب رأيه. واتفق مع الرأى السابق الدكتور محمد فتح الله الأستاذ بالمركز القومى للامتحانات والتقويم التربوى، معتبرا أن إقحام الموضوعات السياسية فى أسئلة الامتحان خطأ من المعلمين، لأن الامتحانات توضع لقياس القدرات التحصيلية للطلاب، وليس ميولهم السياسية واتجاهاتهم الفكرية، وأن طريقة وضع السؤال تقود الطالب لتاييد رؤية بعينها ليحصل على الدرجة . «الأحداث الجارية كتير وأحسن إننا نبعد عن موضوعات السياسة الحساسة دلوقت» قالها الدكتور هانى درويش الأستاذ بالمركز القومى للامتحانات، لافتا إلى إمكانية استخدام الأسئلة المرتبطة بالأحداث فى التعبير الشفهى داخل الفصل، بعيدا عن الامتحانات التحريرية، من مثل «ما رأيك فى ثورة يناير.. مالها وماعليها»، «يسقط حكم العسكر.. مارأيك فى هذا الشعار أو هذا الهتاف»، ليتدرب التلاميذ على التفكير الناقد والتعبير عن الرأى وفق أفكار متسلسلة. * الجريمة والعقاب لم تكن واقعة امتحان الدقهلية هى الوحيدة التى وصلت إلى أيدى مرتادى مواقع التواصل الإلكترونية، فقد تناقلوا أيضا سؤالا جاء لطلاب إحدى مدارس الإسكندرية «للكتابة عن احتياج المصريين للعمل أكثر من التظاهر»، وتناقلوا أيضا ماجاء فى سؤال التعبير لطلاب الأول الثانوى بمدرسة إسماعيل القبانى بالوايلى، لكتابة أسطر حول «العمل والإنتاج الحقيقى لايتحققان فى ظل استمرار الثورات، إنما الاستقرار هو القاعدة الأولى للإنتاج». وجاء فى امتحان اللغة العربية للصف الأول الثانوى بمدرسة العجوزة الثانوية بنات: اكتب برقية للدكتور كمال الجنزورى رئيس الوزراء ليعينه الله ويوفقه فى عمله الجديد، وكتابة موضوع تعبير مستوحى من العبارة التالية «طلب منه صديقه أن يشاركه فى تدمير وإحراق أحد أقسام الشرطة ولكنه رفض المساس بممتلكات الشعب أو التفكير فى هذا الفعل القبيح»، وموضوع آخر عن الفرق بين الأمن والأمان والحرية من ناحية، والتدمير والفوضى والتخريب من ناحية أخرى. كما انتشرت على موقع فيس بوك صورة ضوئية من امتحان اللغة العربية للصف الأول الثانوى بإحدى مدارس أوسيم التابعة لمحافظة الجيزة، وجاءت قطعة النحو منتقدة 6 أبريل وكفاية، لمحاولتهما الوقيعة بين الجيش والشعب. ورأى بعض المعلمين أن من ينتقد واضعى الأسئلة التى تدعو للاستقرار وزيادة الإنتاج، لم ينتقد من وضع امتحان الثانوية العامة الذى ركز على شباب الثورة والدروس المستفادة مما حدث فى 25 يناير، مما يعكس عدم حيادية لدى من يهاجمون المعلمين وتأثرهم بتوجه سياسى واحد. ويرفض الدكتور الناقة أسلوب استعداء الرأى العام للوزارة ضد المعلمين، واصفا ذلك بديكتاتورية الجماعة السياسية، كما يرفض عقاب المعلمين عن هذه الأسئلة، لأن مثل هذا العقاب لن يمنع المعلم من فرض هذا الرأى أو ذلك على طلابه خلال الحصص الدراسية، مفضلا أن تدرب الوزارة المعلمين على تقبل أن يكتب الطالب غير رسالة الشكر مثلا التى طلبت منه، وقد يكتب رسالة عتاب تعبيرا عن رأى مخالف للرأى الذى طرحه السؤال، وأن يدرب المعلمون من ناحية أخرى على وضع أسئلة لا تحمل رأيا بعينه بقدر ماتعطى فرصة للطالب للتعبير عن رأيه دون خوف، فالعبرة ليست باتجاه الرأى بل بطريقة صياغة هذا الرأى وتسلسل أفكاره. * البحث العلمى يتلون على طريقة وصف البعض بالمتحولين وبالفلول وبالمتلونين، استقبل الكثيرون عبارة «كان الهدف من كوتة المرأة تحقيق مشاركة قومية للمرأة، غير أن ما حدث هو استغلال الكوتة النسائية لصالح الحزب الوطنى بصورة خلت من أى قدر من الذكاء، الذى كان يتطلب أن تأتى النتائج معبرة عن التوازن بين الأحزاب بدلا من التكريس المستفز لهيمنة الحزب الوطنى، واستخدام هذه الكوتة كمصدر لمقاعد إضافية». العبارة التى وردت بين نتائج دراسة علمية أعدها المركز القومى للبحوث الاجتماعية والجنائية، بتكليف من المجلس القومى للمرأة قبل اندلاع الثورة، لرصد تجربة كوتة المرأة فى برلمان 2010 وكيف يمكن تدعيم النائبات ليعملن على مستوى عال داخل البرلمان، وعدلت أهداف الدراسة بعد الثورة لتقتصر على تجربة الكوتة فقط بعد حل مجلسى الشعب والشورى. وتوقف الكثيرون حول الصياغة التى جاءت عليها النتيجة فى العبارة السابقة، وما إذا كان بالإمكان صياغتها بهذه الطريقة لو كانت الثورة لم تقم، وتفرضه الإجابة عن هذا السؤال من موقف حيادية البحث العلمى فى الكثير من مراكزنا البحثية وسط تغير الأحداث السياسية. ومن بين نتائج الدراسة أيضا أن المرشحات فى انتخابات 2010 كانت لديهن قناعة بعد تلك العقبات أن الانتخابات لن تكون نزيهة، وأن الانتخابات ترسم بطريقة لا تسمح إلا بفوز مرشحات الحزب الوطنى، فضلا عن تدخل الأمن يوم التصويت وإعلان النتائج، من خلال التأخر فى نقل الصناديق، وإبدالها، ومنع المرشحين ومندوبيهم من حضور الفرز والتساهل مع مندوبى الحزب الحاكم، وإبطال الأصوات من قبل الفارزين أنفسهم، والتلاعب فى النتائج، وتحيز الأمن وتدخل قيادات الوطنى وغياب الإشراف القضائى أو تحيزه، وتهميش دور اللجنة العليا ورفض الجهات المعنية تنفيذ أحكام القضاء. «صحيح العلم هو العلم، والبحث العلمى لازم يكون صادق وموضوعى، لكن لو ماكنتش الثورة قامت ماكناش هانشوف النتائج دى بالوضوح ده»، قالتها الدكتورة إقبال السمالوطى عميدة كلية الخدمة الاجتماعية بحلوان وإحدى الفائزات بمقعد الكوتة فى برلمان 2010 والتى حضرت الندوة. وأضافت لصباح الخير: «الأمر متعلق بذكاء الباحث، الذى يمكن أن يخبئ نتائج ويبرز أخرى، أو يصيغ النتائج بطريقة لا تجعلها صريحة كما صدرت الآن، مراعاة للأحوال السياسية»..