حطت عصافير النيل على حافة الموج، ثم طارت فى زرقة السماء، ولم يعرف أحد.. .هل كانت تغنى أم تنوح، توقف مالك الذى لم يعد حزيناً عن التراتيل الليلية، لكن صوته.. ما زال يتردد شجياً فى المدى، ويراوغ الموت الذى يأتى فجأة كلحظة البرق.. أو لحظة المداهمة، ذلك الموت المراوغ، الذى ظل النبيل إبراهيم أصلان ينسج تفاصيله فى أعماله الرائعة، كأنه يستدعى تفاصيل موته.. فكما مات أبطاله.. مات. وكما مات صديق عمره خيرى شلبى.. مات.. هل كانت مصادفة؟! أم كانت النبوءة؟! دائماً يرحل أبطاله فجأة.. وبهدوء غريب، كأنما يسرقهم الموت، ثم ينسل سريعاً عبر الليالى الطويلة، أو كأنهم فى لحظة المكاشفة يرون الموت وهو يرقص رقصته الأخيرة... ثم يبتسم لهم ويهدهدهم، فيغلقون أعينهم فى وداعة، ويرون الوجوه الطيبة التى تنتظرهم ما تزال.. فيسرعون بالرحيل.. هكذا مات بائع الفول العجوز فى مالك الحزين، والبهى أفندى فى عصافير النيل، والزوجة فى حجرتين وصالة، وهكذا أيضاً.. مات إبراهيم أصلان.. مات.. بنفس تفاصيل حكايته عن موت خيرى شلبى. وكأنه نفس المشهد يتكرر مرة أخرى.. بل إنه وصف موت شخص ذات مرة، بجملة بدت غريبة ساعتها، وتوقفت أمامها طويلاً.. تلك الجملة المرة الساحرة القاتلة.. مات فى وسط الكلام!! رحل النبيل الطيب إبراهيم أصلان، القادم من خضرة الريف، إلى غربة المدن الحجرية، من ضفاف تلك الترعة الضيقة المليئة بالعفاريت والجن، إلى ضفاف النيل المنهك فى الكيت كات، تلك المنطقة التى لازمته طويلاً.. وحمل أشخاصها وشوارعها، وبيوتها الضيقة المتلاصقة فوق كتفه النحيل، وظل مرتحلاً عبر فضاءات بعيدة، ربما تبدد لحظة الخوف والألم، ظلت شخصيات الكيت كات البسيطة الطيبة، المهاجرة من الريف، إلى أطراف المدينة، فى بيوت تحتمى ببعضها من الخوف والفقر، بيوت ظلت رغم المقاومة، تهبط بسكانها يوماً بعد يوم، كأنما ضاقت بها شوارع المدينة، فقررت أن تبتلعها، ظلت هذه الشخصيات تحاول أن تبحث عن صيغة للمصالحة مع المدينة، فى الكيت كات، وعصافير النيل، وحكايات من فضل الله عثمان. رحل إبراهيم أصلان المبدع الجميل، القادر دوماً على اصطياد التفاصيل المدهشة، والشخصيات التى تواجه الدنيا، ليست مواجهة قدرية، بقدر ما هى مواجهة إنسانية، لعل هذا الصباح الرائق يأتى ذات يوم.. رحل أصلان.. ورحلت معه الليالى الجميلة، وأجمل أيام العمر.