استيقظت نساء مصر ذات صباح في أوائل عام 1956 علي صوت ينادي عليهن.. حرية.. حرية.. حرية سياسية فقد صدر أول دستور مصري بعد ثورة يوليو 1952 ولأول مرة في تاريخ البلاد يعطي المرأة حقوقها السياسية.. ولم تكن تلك الحرية سهلة فهي نتاج تاريخ طويل، مثل حرية التعليم، وحرية العمل.. ولنذهب بعيداً إلي ذلك التاريخ منذ ثورة المصريين عام 1919 والتي كانت سببا مباشراً ليقظة ضمير المرأة المصرية وبالتالي لتطور الحركة النسائية المصرية تطوراً رائعاً. - دعوة مجهولة لاجتماع نسائي لقد تلقت أعداد كبيرة من النساء المصريات دعوات مجهولة المصدر تدعوهن إلي كنيسة «مركوس» في موعد معين في مارس 1919 لاجتماع هام، وقد لبت الدعوة مئات من النساء لأن البلاد كانت تغلي بالغضب بسبب نفي الزعيم «سعد زغلول» ورفاقه.. وأسفر ذلك الاجتماع النسائي الأول في مصر علي انتخاب اللجنة التنفيذية للنساء «الوفديات» وعلي رأسها السيدة «هدي شعراوي» التي قادت الحركة النسائية فيما بعد.. كما اتفقت النساء علي القيام بأول مظاهرة نسائية في مصر في 16 مارس 1919 يحملن لافتات احتجاجاً علي المذابح الوحشية التي قابل بها عساكر الاحتلال البريطاني مظاهرات الرجال السابقة والتنكيل بهم، ولافتات بطلب الاستقلال والحرية.. ولم تسلم مظاهرة النساء من فزع المحتل حتي حاول تفريقهن بالرصاص وكانت هناك ضحايا. - حقوق المرأة السياسية خراب للبيوت!! لقد مرت مصر بأحداث كثيرة منذ ثورة 1919 وكانت خلالها تظهر قضية المرأة السياسية أحيانا ثم تختفي.. إلي أن صدر الدستور المصري عام 1923 والذي يعتبر أول دستور حقيقي للبلاد وقد نص في المادة الثالثة علي أن كل المصريين متساوون في الحقوق المدنية والسياسية وهو ما يفهم منه مساواة المرأة بالرجل، لكن في قانون الانتخاب الذي صدر في آخر أبريل من نفس العام وبعد أحد عشر يوما من صدور الدستور.. قصر حق الانتخاب علي الرجل فقط.. في ذلك الوقت ظهرت قضية منح المرأة المصرية الحقوق السياسية. أصدرت «منيرة ثابت» مجلة «الأمل» وكانت أول فتاة مصرية تحصل علي شهادة مدرسة الحقوق الفرنسية، وتكتب في الصحافة.. وجعلت المجلة ساحة للمعارك النسائية.. وقد كتبت للزعيم «سعد زغلول» تنتقد دستور 23 لإغفاله حقوق المرأة السياسية. كما احتجت علي تشكيلة وزارته عام 1924 بأنها وزارة لا تمثل الشعب لأنه ليس بها وزيرة!.. وقد ظهرت مقالات في الصحف والمجلات المصرية لرجال ونساء... مرحبين، ومعارضين وكان المعارضون أكثر لحصول النساء علي حقوقهن السياسية!.. فاشتراك النساء في الحياة العامة يفقدهن العناية الخاصة ببيوتهن وتربية أولادهن.. و.. و.. ومن قال إن عملها بالسياسة خراب للبيوت لأن منح النساء حق الانتخاب هذا قد يكون مدعاة للنزاع بين المرأة وزوجها، إذا كان لكل منهما رأي سياسي خاص.. إذا كان أحدهما يناصر حزبا والآخر ينتمي إلي حزب معادِ. وقد دافع البعض عن حق المرأة في الانتخاب، فحرمان النساء من هذا الحق نقص للمبدأ السامي الذي أنشئت المجالس النيابية علي أساسه، وهذا المبدأ يقضي بأنه لا يجوز أن تقرر واجبات علي شخص أو طائفة دون أن تسمع أقوال هذا الشخص أو هذه الطائفة والقوانين تقيد الرجال والنساء علي السواء، إذا، فليس من العدل أن يستقل الرجال بعملها دون النساء وأن تحرم النساء من الدفاع عن أنفسهن من هذه القوانين التي يقررها الرجال لمصلحتهم دون النظر إلي مصلحتهن!!. - بنات النيل يقتحمن البرلمان في زمن أربعينيات القرن العشرين ظهرت قضية المرأة بشدة وإن كانت لم تختف تماما في الثلاثينيات، فقد ظهرت رائدات تلك الفترة الأربعينية يطالبن بحقوق المرأة السياسية ليس فقط في حق الانتخاب بل في الترشيح لعضوية البرلمان.. واعتبرت الرائدات أن حرمان المرأة المصرية من حقوقها السياسية خرق لميثاق هيئة الأممالمتحدة الذي أعلن المساواة بين المرأة والرجل في جميع الحقوق والواجبات، هذه الهيئة التي نشأت بعد الحرب العالمية الثانية وانضمت مصر عضوا فيها. وقد أصدرت الرائدة الدكتورة «درية شفيق» مجلتها الشهيرة في ذلك الوقت «بنت النيل» وجندتها لمعركة المطالبة بالحقوق السياسية للنساء، ولتجذب النساء عموما لقراءتها كانت ظاهرها مجلة نسائية تهتم بشئون البيت والأزياء، لتجد القارئات بجانب هذا مقالات ساخنة للمناضلات المصريات.. وكانت كتابات «درية شفيق» ساخنة ضد تجاهل المسئولين لمطالب النساء حتي أنها هاجمت خطبة «الملك فاروق» في نوفمبر عام 1948 عن افتتاح البرلمان لتجاهله حقوق المرأة السياسية. وفي فبراير عام 1951 نظمت «درية شفيق» مظاهرة كبيرة من النساء اجتمعن أمام الجامعة الأمريكية.. وخطبت في ذلك الحشد النسائي: «إنه علي بُعد خطوات منا ينعقد برلمان النصف الثاني من الأمة.. وأقترح أن نذهب إلي هناك تدعمنا معرفتنا بحقوقنا وأن نخبر النواب والشيوخ أن اجتماعاتهم غير قانونية مادام تمثيلنا مرفوضا. إن البرلمان لن يصبح صورة أمينة للأمة حتي تدخله النساء». وتوجهت جموع النساء إلي البرلمان واقتحمن بوابته واستمرت المظاهرة أربع ساعات حتي سُمح لدرية شفيق بمقابلة نائب رئيس البرلمان وأخذت منه وعدا بالنظر إلي مطالب المرأة.. وبدلا من الرد علي مطالب النساء التي أودعتها البرلمان ومجلس الوزراء وجدت درية شفيق استدعاء لها للمثول أمام المحكمة بتهمة اقتحام البرلمان..!!.. وكانت فرصة للمحاميات المصريات لإثبات وجودهن في الدفاع عن الرائدة وكانت في مقدمتهن المحامية الشابة «مفيدة عبدالرحمن» التي أصبح لها شأن كبير في الحياة السياسية والقانونية المصرية فيما بعد.. وانضم إليهن محامون مؤمنون بقضايا المرأة.. لكن القضية انتهت بعدها بشهر لأجل غير مسمي.. فقد كانت الحياة السياسية في مصر مضطربة.. إلي أن قامت ثورة يوليو 1952 وعادت مرة أخري إلي سطح الحياة السياسية المصرية قضية المرأة.. وحقوقها. - حرية.. مع الثورة المصرية لكن النضال النسائي اشتعل مرة أخري.. فكيف يكونون لجنة من خمسين عضوا لصياغة دستور جديد لمصر ولا تكون بينهم امرأة؟!.. فقد ألغت ثورة يوليو الدستور السابق للبلاد كما ألغت الأحزاب السياسية.. وكان تجاهل المرأة في صياغة الدستور الجديد قد أصاب النساء بالشك.. ربما يكون هذا مقدمة للتغاضي عن حقوق النساء السياسية!. وفي مارس 1954 توجهت د. «درية شفيق» مع ثماني نساء صحفيات وفي مجالات عمل أخري إلي نقابة الصحفيين بالقاهرة واعتصمن هناك، وأضربن عن الطعام للمطالبة بالحقوق السياسية للمرأة.. وقد استمر إضرابهن تسعة أيام إلي أن أبلغهن محافظ القاهرة برسالة شفهية من رئيس الجمهورية «محمد نجيب» أن مطالبهن قد وصلت إلي اللجنة المختصة للنظر فيها وحقوقهن في أيد أمينة. وفعلاً صدر دستور 1956 ومنحت المرأة المصرية حقوقها السياسية لأول مرة في مصر.. وقد دخلت المرأة المصرية برلمان 1957 - اثنتان فقط.. سيدة فاضلة من الإسكندرية ورائدة نضالية من القاهرة وهي «راوية عطية». لكن أفكار الناس لا تتحول فجأة إلي أفكار حرة فرواسب الماضي كانت مؤثرة ومعطلة لترشيح المرأة للبرلمان إلي أن جاءت فكرة تعيينها فيه ضمن الذين يعينهم رئيس الجمهورية حتي لا تخوض خسارة مادية ومعنوية كما حدث في انتخابات سابقة من سنين قريبة لكثيرات.. فهل ستعوض خسارتها في الانتخابات البرلمانية الحديثة بعد ثورة مصر الحديثة يناير 2011 وبعد استبعاد فكرة تعيينها في البرلمان؟!.. أم.. ستعطلها رواسب أفكار رجعية من الماضي؟!.. سننتظر لنري.. وعلي أي حال فلن ينتهي نضال المرأة المصرية لتنال حقا من حقوقها الإنسانية الوطنية السياسية في سنة أولي لدستور جديد للبلاد.. ولتكن عضوا من أعضاء صياغة هذا الدستور الجديد.