بعض القوى السياسية وصفت مظاهرة مليونية الجمعة الماضية بأنها «جمعة كندهار» حيث احتشدت فى ميدان التحرير كل التيارات الإسلامية فى هدف واضح لاستعراض القوة والقدرة على تنظيم الحشود تحت راية الإسلام.. فى إشارة واضحة إلى أنهم الأقوى والأكثر تنظيما والأحق بتولى سلطة البلاد. وقد أصدروا الأوامر بالإخلاص فى الهتاف لنيل الثواب.. فالمشاركة فى المظاهرة كالجهاد فى سبيل الله!! وهكذا تجمعوا.. وهتفوا.. وحلموا بتولى حكم مصر!! أما لماذا أطلق عليها البعض «جمعة كندهار».. فهو تحسباً للتطرف الدينى الذى وصل إلى أقصى درجاته فى أفغانستان تحت حكم «طالبان» وما جرى بالتالى فى مدينة «كندهار» الواقعة فى الصحراء الممتدة على الحدود بين أفغانستانوإيران، والتى صورها ذلك الفيلم الإيرانى «السفر إلى كندهار» الذى عرض فى المسابقة الرسمية لمهرجان كان السينمائى عام 2001 للمخرج «محسن مخلمباف» الذى أنتجه لحسابه بالمشاركة مع فرنسا وكان الفيلم من تأليفه ومونتاجه. وكان الفيلم مفاجأة مذهلة بكل تفاصيله الصادمة للعقل والمشاعر. ووجدت نفسى مدفوعا للتحذير من هذا المصير المؤلم، لو حدث لنا فى مصر هذا التطرف الدينى خصوصا أن بشائره كانت قد بدأت تطفو وقتها على سطح حياتنا ونتعامل معها بقليل من الحذر. ولهذا اخترت وقتها عنواناً لمقالى: «بروفة الانهيار القادم» وقد نشر فى «صباح الخير» بتاريخ 29 مايو 2001 أى مضى على نشره أكثر من عشرة أعوام. واليوم أستعيد معكم بعض أحداث ذلك الفيلم.. على أمل أن يراجع المتطرفون أفكارهم، وخطة طريقهم لحكم مصر. والفيلم لا يدخل إلى قلب أفغانستان، ولكنه يحوم حولها بالقرب من مدينة «كندهار» وحيث تهبط إليها عن طريق إحدى طائرات هليكوبتر الصليب الأحمر، تلك الصحفية «نافاز» والتى كانت قد هربت من أفغانستان واستقرت فى كندا منذ أن كانت طفلة.. وهاهى تعود الآن بناء على استغاثة من شقيقتها التى تعيش فى أفغانستان تعلن نيتها فى الانتحار من شدة وطأة الحياة تحت حكم طالبان. وتبدأ الصحفية رحلتها فى الصحراء الممتدة تحمل جهاز كاسيت تسجل فيه بصوتها مشاهداتها وملاحظاتها.... شابة جميلة وقوية ترتدى الملابس الأفغانية وتتكلم بالإنجليزية ربما نتيجة حياتها فى كندا.. تلتقى فى طريقها وسط الرمال بتجمع من عدة عائلات أفغانية تستعد للهروب لجوءاً إلى إيران.. الحياة بدائية تماما.. الفقر واضح والمعاناة يشرحها الرجال.. فالنساء لا تتكلم وكلهن منقبات من قمة الرأس إلى القدمين ماعدا مساحة صغيرة من الخيوط المجدولة فى الرأس تسمح لهن بالرؤية، وكل رجل تزوج أربع نساء، وحولهن طابور من الفتيات الصغيرات، يشرح رب العائلة أن الفتيات ممنوعات من التعليم ودخول المدارس، ويعلق مفسرا «حفاظا على كرامة المرأة»! ثم يضيف «إن تربية البنات صعبة جداً... فهن يحتجن لليقظة الشديدة لحراستهن من الانتحار أو الجنون»!. أما الأولاد فمن حقهم التعليم ويدخل معها إلى أحد فصول التعليم داخل حوش مفتوح والأولاد يجلسون على الأرض وأمامهم القرآن الكريم يرتلون الآيات بسرعة وبدون فهم لمعانى الكلمات السامية.. والمدرس يقف أمامهم وهو أحد جنود طالبان يصرخ فيهم أن يسرعوا فى حفظ الآيات ثم ينادى أن يرفعوا أسلحتهم.. فنكتشف أن كل صبى من هؤلاء معه بندقية آلية يمسكها فى حماس ويهتف للجهاد. ويكتشف المدرس أن أحد الطلبة الصغار يموج صوته بترتيل القرآن دون أن ينطق أى كلمة صحيحة فيطرده من الدرس ليصبح هذا الصبى هو المرشد للصحفية «نافاز» فى بحثها عن الطريق إلى «كندهار» وهو يقبل هذه المهمة بعد أن يحدد أجرها بخمسين دولارا.. وتقبل الصحفية هذا العرض.. لتفاجأ بعد قليل أن هذا الصبى يحاول استنزافها ببيع أى شىء لها ليحصل على مزيد من الدولارات.. حتى أنه يخلع خاتماً من إصبع أحد الهياكل العظمية الملقاة فى الصحراء.. ويحاول أن يبيع لها هذا الخاتم.. ولكنها ترفض فى فزع مجرد الفكرة.. ولكن الصبى يلح بشدة ويواصل مطاردتها.. وتسقط «نافاز» مريضة.. فيقودها الصبى إلى خيمة الطبيب. ونكتشف أن الطبيب رجل أسمر له لحية طويلة يرتدى الملابس الأفغانية ويعالج مرضاه بالأعشاب والمراهم التى يصنعها بنفسه.. وأنه يكشف على مرضاه من النساء من خلف ستارة بها ثقب متوسط الحجم يسمح فقط بإدخال سماعة الكشف أو رؤية التهابات الزور.. وغير مسموح للطبيب بتوجيه الأسئلة المباشرة إلى المرأة المريضة.. ولكن يتم هذا من خلال وسيط من الرجال الذى يلقى الأسئلة ويتلقى الإجابات ثم يبلغها للطبيب. وتنتظر الصحفية «نافاز» دورها فى الكشف.. ومعها الوسيط ذلك الصبى الذى يلازمها فى إلحاح أن تشترى منه الخاتم المسروق من الجثة.. ويأتى دور «نافاز» التى تشكو مرضها بلغة إنجليزية... فيفاجأ الطبيب بهذه الشخصية ويصبح الحوار معها مباشرة، ليحدد المرض بأنه حمى نتيجة شرب مياه ملوثة من الآبار. يراقب الصبى هذا الحوار المتبادل بين الصحفية والطبيب.. فينتهز الفرصة لأن يبتزها فى إلحاح لشراء الخاتم.. تعطيه الدولارات التى يطلبها.. وتصرخ فيه أن يبتعد عن طريقها.. يأخذ الصبى النقود ويجرى.. لتواصل الصحفية حوارها مع الطبيب الذى تسأله عن جنسيته، فتكتشف أنه أمريكى من أصل أفريقى.. ثم يفاجئها الطبيب بأن يخلع لحيته الطويلة المستعارة.. وأنه اضطر لهذه الخدعة لكى يتواءم مع جنود حركة طالبان باعتباره أفغانيا! ويواصل اعترافاته للصحفية بأنه جاء من أمريكا فى الثمانينيات.. ليشارك فى الحرب الأفغانية ضد السوفييت، ثم استقر فى هذه المنطقة النائية على أمل أن تواتيه الفرصة للهرب والعودة إلى بلاده. ويتطوع الطبيب لمرافقتها فى الرحلة عبر الصحراء للوصول إلى «كندهار» ولكن بمجرد ظهور أحد جنود طالبان فى الطريق يسرع الطبيب إلى الاختباء داخل الملابس الأفغانية والهرب. لتجد الصحفية «نافاز» مجموعة من الرجال مقطوعى الأرجل والذين يهرعون فى اتجاه خيمة بعيدة يرفرف عليها الصليب الأحمر.. فتذهب معهم إلى هناك.. لتكتشف أن هولاء مقطوعى الأرجل فقدوا سيقانهم فى الألغام المدفونة فى رمال الصحراء وهم يتجمعون فى خيمة الصليب الأحمر بحثا عن السيقان الصناعية.. وتشهد حوارا غريبا بين أحد هؤلاء الرجال وطبيبة الصليب الأحمر، محاولاً أن يستبدل الأرجل الخشبية التى كان قد أخذها لزوجته المصابة بأخرى أكثر طولا حيث إن زوجته فى الأصل كانت طويلة.. والطبيبة تحاول أن تشرح له عدم توافر طلبه لديها، ولكنه يصمم بإلحاح، ثم يقطع هذا الحوار العبثى صوت طائرة تشق صمت الصحراء.. وعملية إنزال لمجموعة من السيقان البلاستيك بالبراشوت. وفى مشهد من أبلغ مشاهد الفيلم نرى مجموعة الرجال مقطوعى الأرجل وهم يحجلون فى خطوة سريعة ليلحقوا بالسيقان البلاستيك التى ترميها الطائرة. منتهى العجز.. منتهى الفقر.. منتهى المهانة الإنسانية. وتعود الصحفية «نافاز» من حيث أتت.. بعد أن فشلت على مدى ثلاثة أيام فى الوصول إلى شقيقتها فى كندهار.. تلك الشقيقة التى لم نر صورتها طوال الفيلم.. ولا نعرف ماذا كان مصيرها، انتحرت.. أم أصابها الجنون! وهكذا ينتهى الفيلم الإيرانى «السفر إلى كندهار».. المثير أن إيران التى تعيش التشدد الدينى تقدم هذا الفيلم عن أفغانستان لتظهر للعالم ما يفعله التطرف الدينى. والمسألة درجات.. أو كما يقول المخرج الإيرانى «محسن مخلمباف»: هدفى من هذا الفيلم ليس سياسياً.. وإنما إنسانى. ثم يستطرد موضحا فى النشرة الصحفية المصاحبة للفيلم قائلاً: «إذا قرأت هذه السطور كلها ستأخذ ساعة زمن منك... ولكن فى هذه الساعة هناك أكثر من 14 شخصاً يموتون فى أفغانستان من الحرب والجوع، وهناك ستون شخصاً آخرون يهاجرون من أفغانستان هربا إلى دول أخرى، وإذا كانت هذه السطور ستفسد عليك متعة حياتك الجميلة.. أرجوك امتنع عن قراءتها»! ثم يحكى المخرج عن تجربته أثناء تصوير هذا الفيلم أنه لا ينسى المهاجرين الأفغان الذين كانوا ضائعين فى الصحراء، وعلى وشك الموت.. وكيف أسرعنا بنقلهم إلى أقرب نقطة علاج، وكنا نتصور أنهم مرضى بالكوليرا.. ولكن اكتشفنا أنهم مرضى من الجوع.. ومن تلك اللحظة لم أكن قادرا على مسامحة نفسى وتناول وجبات طعامى. ويحكى المخرج أيضاً كيف جاءت قوات طالبان تبحث عنه لتعتقله أو تقتله وكان قد أطلق لحيته وارتدى الملابس الأفغانية والعمامة أيضاً.. وعندما حاصروه أنكر نفسه وأشار لهم إلى مكان بعيد.. ثم انطلق هارباً بأقصى سرعة! لقد استغل المخرج «مخلمباف» طبيعة الصحراء فى لوحات تشكيلية رائعة أعطت الإيحاء بالضياع والخوف والوحدة القاتلة وغزل من ألوان الملابس الأفغانية تكوينات بصرية متحركة فى تناسق لونى... وكسر بهذه الألوان حدة اللون الأصفر للرمال، ورغم الطابع التسجيلى فى جزء كبير من الفيلم، إلا أنه لم يفقد الموضوع قوته الدرامية كرسالة استغاثة للعالم، جند لها سكان المنطقة الأصليين ليلعبوا على الشاشة أدوارهم فى الحياة.. فجاء كل شىء طبيعياً يهز المشاعر ويجعلنا نفكر ألف مرة فيما قد يفعله التطرف الدينى فى حياة البشر.