احتفلت أمس الاثنين جمعية مسجد محمود بالذكرى السنوية الثانية لوفاة المفكر والأديب والروائى والمسرحى دكتور مصطفى محمود وذلك فى الصالون الثقافى الذى أسسه الرجل وكان يستضيف فيه كبار المثقفين والمفكرين والعلماء خاصة فى علم الفلك. وبالصالون ذلك المرصد الفلكى الشهير الذى كان د. مصطفى محمود ينظر من خلاله ومع زواره لرؤية النجوم والحديث عن علم الفلك وفى هذه المناسبة أرسلت لنا ابنته أمل والتى أصبحت مسئولة عن الصالون الثقافى الذى أسسه والدها الراحل مثالا رصدت فيه موقفاً للدكتور مصطفى محمود عن العدل الأزلى كما تحدث عنه فى كتابه الشهير «من الشك إلى اليقين». تمر اليوم الذكرى الثانية لرحيل أعز وأغلى وأحب إنسان إلى قلبى: أبى، وقد اعتدت كلما عصف بى الشعور بالوحدة والشوق للقائه والحديث معه أن أفعل عدة أشياء أولها قراءة القرآن والفاتحة والترحم والدعاء له بالعفو والمغفرة. ثانيها مساعدة محتاج على تجاوز أى محنة أو حتى إدخال السرور على قلب إنسان يشعر بالغربة والوحدة والحزن وأخيرا قراءة عدة فصول فى كتبه. فكتب والدى تتميز بشىء مختلف فهى نتاج حى لكل ما يشعر به ويجيش فى صدره وعقله، أى عصارة وخلاصة فكره وأحاسيسه وآماله وآلامه فكل كتاب يمثل مرحلة من المراحل الحياتية والتجارب الشخصية أو الفكرية التى عاشها فهو نتاج بحث وترحال داخل أغوار النفس البشرية أو فى ملكوت الله وما بين سمائه وأرضه فهو يكتب بعفوية أكثر ما يكتب بحرفية. فمن خلال كتبه تستطيع التعرف عليه بل وتصبح صديقاً قديماً حميماً لازمه وزامله عشرات السنين. وبما أننا نحلم بالعدل وقد قامت الثورة من أجل تحقيقه والقضاء على الفساد ففى هذا الفصل «العدل الأزلى» من كتاب «رحلتى من الشك إلى الإيمان» يفسر سر نجاح الثورة فى الحادى عشر من فبراير، فالفطرة السليمة تنشد العدل وتسعى إليه وتنفر من التطرف والعنصرية والظلم.. سأصحبكم فى رحلة قصيرة مع عاشق الترحال. «إحساس الفطرة الأولى الذى ركبه الخالق فى بنية المخلوق» إنه الحاسة الأخلاقية البدائية نجد أثرها حتى فى الحيوان الأعجم. الذى رأى القطة تتلصص على المائدة فى خلسة من أصحابها ثم تمد فمها لتلقف قطعة سمك. الذى رأى مثل تلك القطة ونظر إلى عينيها وهى تسرق لن ينسى أبدا تلك الفطرة التى ملؤها الإحساس بالذنب. وبالمثل غضبة الجمل بعد تكرار الإهانة من صاحبه وبعد طول الصبر والتحمل ثم الوفاء الزوجى عند الحمام. والولاء للجماعة فى الحيوانات التى تتحرك فى قطعان. نحن أمام الأسس الأولى للضمير نكتشفها تحت الجلد وفى الدم لم يعلمها معلم وإنما هى فى الخلقة. ونحن إذ نتردد قبل الفعل نتيجة إحساس فطرى بالمسئولية ثم نشعر بالعبء فى أثناء الفعل نتيجة تحرى الصواب ونشعر بالندم بعد الفعل نتيجة الخطأ. هذه المشاعر الفطرية التى يشترك فيها المثقف والبدائى والطفل هى دليل على شعور باطنى بالقانون والنظام وأن هناك محاسبة. وأن هناك عدالة وأن كل واحد فينا مطالب بالعدالة كما أن له الحق فى أن يطلبها وأن هذا شعور مفطور فينا منذ الميلاد جاءنا من الخالق الذى خلقنا وفى طبيعتنا ذاتها. والكون كله جدول من القوانين المنضبطة الصريحة التى لا غش فيها ولا خداع. سوف يرتفع صوت ليقول: ما رأيك فيما نحن فيه من الغش والخداع والحروب والمظالم والفوضى وقتل بعضنا البعض بغيا وعدواناً، أين النظام هنا؟ سوف أقول له: هذا شىء آخر فإن ما يحدث بيننا نحن دولة بنى آدم يحدث لأن الله خلقنا على الأرض وأقامنا ملوكا نحكم وأعطانا الحرية وعرض علينا الأمانة فقبلناها وكان معنى إعطائنا الحرية أن تصبح لنا إمكانية الخطأ والصواب وكل ما نراه حولنا فى دنيانا البشرية هو نتيجة هذه الحرية التى أسأنا استعمالها. إن الفوضى هى فعلنا وهى النتيجة المترتبة على حريتنا أما العالم فهو بالغ الذروة فى الانضباط والنظام لو شاء الله لأخضعنا نحن أيضا للنظام قهراً كما أخضع الجبال والبحار والنجوم والفضاء ولكنه شاء أن ينفى عنا القهر لتكتمل بذلك عدالته وليكون لكل منا فعله الخاص الحر الذى هو من جنس دخيلته. أراد بذلك عدلا ليكون بعثنا بعد ذلك على مقامات ودرجات هو إحقاق الحق ووضع كل شىء فى نصابه. وليس ما نحياه من الحياة فى دنيانا هو كل الحياة إن دنيانا هى فترة موضوعة بين قوسين بالنسبة لما بعدها وما قبلها وهى ليست كل الحقيقة ولا كل القصة وإنما هى فصل صغير من رواية سوف تتعدد فصولاً. وقد أدرك الإنسان حقيقة البعث بالفطرة أدركها الإنسان البدائى وقال بها الأنبياء إخباراً عن الغيب. وقال بها العقل والعلم الذى أدرك أن الإنسان جسد وروح وأن الإنسان يستشعر بروحه من إحساسه الداخلى العميق المستمر بالحضور برغم شلال التغيرات الزمنية حوله وهو إحساس ينبئ بأنه يملك وجودا داخليا متعاليا على التغيرات متجاوزا للزمن والفناء والموت. ونحن نطالب أنفسنا ونطالب غيرنا فطريا وغريزياً بالعدل وتحترق صدورنا إذا لم يتحقق هذا العدل. ونحارب لنرسى دعائم ذلك العدل ونموت فى سبيل العدل وفى النهاية لا نحقق أبداً ذلك العدل. وهذا يعنى أنه سوف يتحقق بصورة مالا شك فيها. لأنه حقيقة مطلقة وفرضت نفسها على عقولنا وضمائرنا طول الوقت. وإذا كنا لا نرى ذلك العدل يتحقق فى دنيانا فلأننا لا نرى كل الصورة ولأن دنيانا الظاهرة ليست هى كل الحقيقة وإلا فلماذا تحترق صدورنا لرؤية الظلم ولماذا نطالب غيرنا دائما بأن يكون عادلا ولماذا نحرص كل هذا الحرص ونشتعل غضبا على ما لا وجود له. إن شعورنا الداخلى الفطرى هو الدليل القطعى على أن العدل حق وإن كنا لانراه اليوم فإننا سوف نراه غدا وهذا توكيد يأتينا دائما من داخلنا وهو الصدق لأنه وحى البداهة والبداهة والفطرة جزء من الطبيعة المحكمة الخالية من الغش وهى قانون من ضمن القوانين العديدة التى ينصب بها الوجود والعدل والحقيقة الأزلية التى وقرها الله فى الفطرة وفى الحشوة الآدمية وفى حتى الحشوة الحيوانية. إن الله الخالق العادل الملهم الذى خلق مخلوقاته وألهمها الطريق وهو لباب الأديان كلها وهو مبدأ أولى يصل إليه العقل دون إجهاد وتوحى به النظرة بداهة وهذا ما قالته لى رحلتى الفكرية الطويلة. وليس متدينا فى نظرى من تعصب وتحزب وتصور أن نبيه هو النبى الوحيد وأن الله لم يأت بمعجزة فإن هذا التصور لله هو تصور طفولى متخلف يظن أن الله أشبه بشيخ قبيلة ومثل هذا الإحساس هو عنصرية وليس تدينا. وإنما التصور الحق لله أنه الكريم الذى يعطى الكل ويرسل الرسل للكل. الدين واحد من الناحية العقائدية وإن اختلفت الشرائع فى الأديان كما أن الرب واحد. والفضلاء من جميع الأديان هم على دين واحد، لأن المتدين الفاضل لا يتصور الله خالقا له وحده أو لفئة وحدها وإنما هو نور السموات والأرض المتاح لكل من يجهد باحثا عنه الرحمن الرحيم المرسل للهداة المنزل للوحى فى جميع الأعصر والدهور.. وهذا مقتضى عدله الأزلى، وهذا هو المعنى الجدير بالمقام الإلهى وبدون هذا الإيمان المنفتح لا يكون المتدين متدينا أما الأديان التى تنقسم شيعا يحارب بعضها بعضاً باسم الدين فإنها ترفع راية الدين كذبا وما الراية المرفوعة إلا راية العنصر والعرق والجنس وهى مازالت فى جاهلية الأوس والخزرج حماسيات عنترة تحارب الغرور وإن ظنت أنها تحارب الله وهى هالكة.. الغالب فيها والمغلوب، مشركة كل منها عابد لتمثاله ولنفسه ولتصوره الشخصى وليس عابدا لله. وإنما تبدأ عبادة الله بمعرفة الله ومقامه الأسمى وتبدأ معرفة الله بمعرفة النفس ومكانها الأدنى. وهذا هو الطريق والصراط والمعراج الذى بدأ منه عروج السالكين فى هجرتهم الكبرى إلى الحق». أتمنى أن نكتشف فى خلال هذه الرحلة القصيرة سر نجاح الثورة، ففى هذا اليوم بالذات كنا على الفطرة التى خلقنا الله عليها جميعا ننشد العدل وننادى به.. كل المصريين بجميع أيديولوجياتهم واختلاف القوى والتيارات الفكرية والدينية ومستوياتهم الاجتماعية، والكل على قلب رجل واحد نرفض التشرذم والفرقة باسم الدين أو الجنس أو الفكر، المسلم يصلى والمسيحى يرتل ويبتهل للرب، والليبرالى يدعو الله.. تلك كانت تميمة القوة التى ألقت الخوف والرعب فى نفوس وقلوب الظالمين وأسقطت عروشاً استمرت عقوداً وسنين. والآن نحن فى حاجة ماسة لهذه التميمة الساحرة لتحقيق العبور الثانى الذى نحلم به بعد عبورنا الحربى فى أكتوبر واسترداد الأرض وتحقيق النصر. العبور هذه المرة سوف يستغرق سنوات من العمل والكفاح لتحقيق الطفرة الاقتصادية والعدالة الاجتماعية التى ننشدها جميعا معا نبدأ اليوم رحلة البناء والعمل والإنتاج وإنهاء الاعتصامات والمظاهرات التى أصابت الحياة العملية والمرورية بالشلل، وأصابت السياحة فى مقتل وهذه كلمات وزير السياحة بعد المظاهرات الأخيرة وبعد مجهود مضن لعودة عجلة العمل والسياحة ألغى العديد من الوفود رحلاتهم بسبب الخوف من الاعتصامات فى الشوارع فى ظل الغياب الأمنى وانتشار الفوضى. أتمنى من قلبى الإسراع بتحقيق العدالة الاجتماعية وبوضع حد أدنى وتحديد حد أقصى يصب فى صالح الفئات الأكثر احتياجا بل واشتراك المجتمع المدنى ورجال الأعمال لحل هذه الأزمة. كما أتمنى أيضا القضاء على التطرف والعنصرية التى لا تدل إلا على ضيق الأفق وسوء الفهم المقرون بسوء الفعل، أتمنى أن تصل هذه الرسالة لكل أهل الأرض وليس فقط لأهلى وعشيرتى شركاء الماضى والحاضر والمستقبل.. أى كل المصريين على أرض مصر التى أتمنى دائما أن تظل محروسة.