عندما انضممت إلى كتيبة مجلة صباح الخير فى أواخر السبعينيات كانت من أمنياتى أن أرى الفنان «العبقرى حجازى» وأجلس معه، فمنذ أن أحببت الرسم فى طفولتى وحتى دخلت كلية الفنون الجميلة.. كانت مجلة صباح الخير لا يفوتنى منها عدد وأول ما أفتحها أفتح على رسومات حجازى.. وبعدها أتأمل الباقة الفريدة من الرسوم التى أبدعها فنانو صباح الخير المتميزون على مستوى العالم العربى.. وبعد عملى بالمجلة كنت أحب الجلوس والحديث مع هؤلاء الفنانين العظام فكانت تمتعنى حكايات عم هبة عنايت.. والفنان إيهاب شاكر.. والفنان عبدالعال.. وأما الجلسة مع رؤوف عياد فكانت ممتعة من كثرة تعليقاته الساخرة على كل ما حوله.. حتى على نفسه.. واستمتعت بأحاديث عم حسن فؤاد والأستاذ زهدى العدوى والفنانين الكبار جمال كامل.. والليثى واللباد ودياب ومحسن جابر.. فالكل اقتربت منهم وتحدثت معهم بصفتى العملية وكنت أعمل مساعد المشرف الفنى.. ولكن للأسف لم أر حجازى.. وعندما سألت عنه قالوا: «يأتى مبكرا ويمشى مبكرا أيضا».. وفقدت الأمل فى رؤيته والجلوس معه حتى جاء يوم ذهبت للمجلة (بالصدفة) باكرا فإذا بى أجد حجرته تفتح ويخرج منها شخص حاملا بعض الأوراق.. ويتوجه نحو المصعد.. فقال لى عم حسين: «الأستاذ حجازى!» فأسرعت نحوه وقلت له: «صباح الخير.. أنا فلانة زوجة فلان».. فرد الصباح بخجل شديد وقال لى: «سلمى على بغدادى.. وأنا تركت له رسومات العدد مع عم حسين». كنت سعيدة جدا.. أخيرا رأيت حجازى.. وعرفت بعدها من الزملاء سر حضوره باكرا للمجلة.. فقد كان يخرج من منزله فى المنيل صباحا.. ويركب أول أوتوبيس نقل عام ويتجه به إلى أى مكان ثم يعود به مرة أخرى.. وخلال رحلة الذهاب والإياب يكون حجازى قد وجد أفكارا جديدة لرسوماته من خلال الأحاديث الجانبية للناس الغلابة وهمومهم من داخل الأوتوبيس. وأتذكر مرة كنت أريد إجراء حوار مع الشاعر الكبير أحمد عبدالمعطى حجازى وكان الرقم المسجل فى أجندة منزلنا باسم د. أحمد حجازى فرد التليفون وقلت: أهلاً أستاذ أحمد أنا أريد إجراء حوار معك وأخذت أتحدث عن محاور الحوار والأسئلة وموعد اللقاء. فرد على المتحدث بصوت هادئ قائلاً: إزى بغدادى على فكرة أنا أحمد حجازى الرسام مش الشاعر!! وعندما كتبت أول كتاب لى.. وهو عبارة عن حكايات يرويها لى فئات من المجتمع أسميته (حكايات من قلب مصر) وجدت رسمة لحجازى معبرة جدا عما يحتويه الكتاب.. فاستأذناه لتكون غلافا للكتاب فقال: «هذا يسعدنى».. ولو أردتم رسمة أخرى أرسمها لكم!!» هكذا كان حجازى شخصاً مهذبا للغاية.. خجولا ولا يحب الظهور فى الجلسات المفتوحة ولا الأحاديث الطويلة.. ولا يحب الحديث عن نفسه أو عن أعماله. والمثير للدهشة أن حجازى كانت علاقته برسوماته علاقة حميمة أثناء عملها فقط.. ويعيش (أثناء) إنجازها أسعد لحظاته.. وبمجرد أن ينتهى منها يتركها ويعتبرها شيئا وانتهى ويبدأ فى عمل آخر.. وكان حجازى لا يحتفظ بأى عمل له ويعطيه لمن يريده.. وهذا ما جعل محمد بغدادى يفكر كثيرا فى جمع رسومات حجازى فى كتاب.. واعتبر هذا المشروع حلم حياته.. لأنه كان يعتبر حجازى فنانا لن يجود الزمان بمثله.. وكما أطلق عليه شيخ رسامى الكاريكاتير المصرى الفنان زهدى العدوى بأن (حجازى الماستر).. فكان يقول: «حجازى أهم وأعظم فنان كاريكاتير جاءت به مصر حتى الآن». وفعلا بدأ الحلم يتحقق فى جمع بعض أعمال حجازى بمجلة صباح الخير وأغلفتها، وأتذكر أننا ظللنا لمدة شهرين أنا وفريق العمل وعلى رأسنا محمد بغدادى ننام فى اليوم ساعات قليلة.. وبقية اليوم نقضيه فى تصنيف أعمال حجازى.. لتبويب الكتاب بين السياسة والفن والتعليم والثقافة وكادت صفحات الكتاب تصل إلى 1000 صفحة.. وصعب علينا تنفيذه لتكلفته العالية والشىء الأصعب هو الاختيار بين أعمال حجازى لضم الأفضل للكتاب فكل الأعمال كانت أفضل وأعظم من بعضها.. ولكن كان علينا إصدار الكتاب بإمكانياتنا المحدودة.. وخرج الكتاب إلى النور كأول كتاب عن (حجازى الماستر) فى يناير 1995 وبعدها تداولته كثير من الصحف والمجلات ونشرت صفحات كاملة منه ومازالت حتى الآن تقوم بهذا.. فرسومات حجازى وأفكاره تصلح لكل زمان.. فهو فنان الحارة المصرية التى خرجت منها ومازالت (تعبر) عن كل آمال وطموحات وأحلام المصريين.. وأجمل شىء كان بالنسبة لى هو أول نسخة تخرج من المطبعة كتب لى عليها بغدادى إهداءً قال فيه: (أجمل اللحظات هى تلك اللحظة التى يتحقق فيها حلم ما من أحلامنا الجميلة صغيرة كانت أو جميلة.. أهديك هذا الكتاب (الحلم) إنه واحد من أجمل أحلامنا صنعناه سويا.. بغدادى يناير 95). فحجازى لم يغب عنا أبدا فرسوماته ستظل تصلح لكل زمان وهذه هى عبقرية حجازى الماستر.