يبدو أن فكرة «أخذ الحق باليد» أو ما يطلق عليه «القصاص الشعبى» بدأت تنتشر يوما بعد الآخر لدى فئة من المصريين.. معتبرين أنها الوسيلة المشروعة لحل مشاكلهم المستعصية فى ظل التقاعس الحكومى غير المبرر من وجهة نظرهم. أكثر من واقعة تكررت فى الفترة الأخيرة ولاتزال تتوالى غيرها من الوقائع التى تعكس ذلك، آخرها واقعة قيام العشرات من العاملين بالشركة المصرية للاتصالات باحتجاز رئيس الشركة للمطالبة برحيله والتهديد بارتكاب مذبحة إذا تدخلت قوات الأمن كذلك واقعة فتنة كنيسة المريناب التى تجاوزت حاجز التظاهر السلمى لتحقيق المطالب إلى استعمال العنف والأسلحة الآلى والمولوتوف وغيرها بهدف الضغط على الحكومة لتنفيذ مطالب الأقباط الذين اعتبروا أن اللجوء إلى القضاء نوع من العبث. كذلك واقعة قطع أذن قبطى نفذه مجموعة من الملتحين الذين ينتمون لجماعات سلفية بمحافظة قنا بتهمة إدارة منزله لممارسة الرذيلة، وواقعة قطع يد سارق فى «صفط اللبن»، وواقعة تنفيذ أهالى حى المنشية بمدينة دسوق التابعة لمحافظة كفرالشيخ القصاص فى بلطجى بقطع يديه ورجليه، وأعقب ذلك واقعة قرية بلبيس بمحافظة الشرقية حيث قام أهالى القرية بقتل عدد من تجار المخدرات والتمثيل بهم. تكرار مثل هذه الجرائم البشعة فى الشارع المصرى فرض علينا أن نلقى الضوء على ظاهرة ''القصاص الشعبى''.. متسائلين هل أخذ الحق باليد أصبح بديلا للجوء إلى القضاء؟ .. وهل أصبح القصاص الشعبى بديلا لدولة القانون؟ .. وهل غابت هيبة الدولة مع غياب الأمن فأصبح لكل بقعة على أرض مصر قانونها الخاص؟ .. وهل نحن جاهزون فى ظل هذه الخروقات الأمنية لاستقبال دولة مدنية ينصاع شعبها إلى القانون أم دولة دينية تقام فيها الحدود فى ظل غياب أمنى وأخلاقى؟ .. السطور التالية تجيب على هذه الأسئلة المثيرة من خلال عدد من السلفيين ورجال الدين والقانونيين والخبراء الأمنيين.المؤكد أن حادث قطع أذن مسيحى بمحافظة قنا بوصفه جزءا من عقيدة سلفية كان الشرارة الأولى التى دفعت المواطنين إلى أخذ حقهم بأيديهم على طريقة ''بيدى .. لا بيد الشرطة''، قامت الدنيا وقتها ولم تقعد على إثر هذا الفعل الإجرامى حيث رفض السلفيون الزج بهم فى هذه الواقعة نافين صلتهم بها تماما وفى المقابل رفضت قيادات إسلامية ومن بينها مفتى مصر الشيخ على جمعة الحادث باعتباره جريمة بكل المقاييس وأن الشريعة الإسلامية منه براء لأن الاعتداء بنى على خطأ جسيم فى فهم وتطبيق آليات الشرع والقانون. إنذار بفتنة طائفية فى البداية كشف د. هشام كمال - القيادى السلفى والمنسق العام لائتلاف دعم المسلمين الجدد: الحكاية وما فيها على غير ما صورتها بعض وسائل الإعلام لأن قطع أذن مسيحى فى قنا لم يكن إقامة حد من الحدود الشرعية لكنه كان مشادة حامية بين مسيحى خصص بيته لممارسة أعمال غير أخلاقية وبين الأهالى القاطنين فى نفس المنطقة والرافضين لهذه الممارسات المشينة التى يجرمها الدين والقانون، فتدخل بعض الإخوة السلفيين لفض هذه المشادة التى انتهت بقيام الأهالى بقطع أذن الرجل المسيحى عقابا له على فعلته وحتى يكون عبرة لكل من تسول له نفسه السير فى هذا الطريق الخطأ، وللعلم فإن تحقيقات النيابة أثبتت ذلك كما أثبتت أن الذين قاموا بهذه الواقعة ليس لهم أى أيديولوجيات أو ينتمون لأى جماعات دينية. وٍدافع كمال عن الجماعة السلفية قائلا: إقحام بعض وسائل الإعلام للسلفيين فى هذه الواقعة دون وجه حق يؤكد نيتهم فى تشويه صورة السلفيين بالأخص والإسلاميين بالأعم من أجل إلباس السلفيين ثوب الهمجية وإظهارهم بشكل مبالغ فيه على أنهم أصحاب وجه سيئ بإقامتهم للحد تارة وهدمهم للأضرحة تارة أخرى وذلك لحساب آخرين. وأشار القيادى السلفى: الشرع يرفض تماما قيام أى إنسان بتطبيق الحدود بهدف ردع المجرمين لأن الموكل لهم القيام بذلك هم ولاة الأمور وإلا تتحول الدنيا إلى غابة يقتل فيها الناس بعضهم البعض ويقتص الناس من بعضهم البعض دون اللجوء إلى الجلسات العرفية أو القضائية للفصل فى مثل هذه الوقائع. وأكد كمال: لا أحد يجعل نفسه وصيا على المجتمع المصرى سواء من الإخوان أو السلفيين أو غيرهم لأن إقامة الحدود الشرعية لا يمكن أن تتم إلا من خلال سلطة الدولة والقانون أما دون ذلك فالأمر خطير وينذر بفتنة طائفية. وأعرب القيادى السلفى عن قلقه من تحول ''القصاص الشعبى'' إلى ظاهرة شعبية مستمرة فى ظل غياب الأمن وعدم تطبيق القانون .. مطالبا: لابد أن ينتهى التخاذل الأمنى وتعود هيبة الشرطة مرة أخرى للحد من أعمال البلطجة التى انتشرت فى الشارع المصرى. إسقاط هيبة الدولة من جانبه حذر الدكتور عبدالمعطى بيومى - عضو مجمع البحوث الإسلامية من قيام المسلم أو المسيحى بأخذ الحق باليد .. مؤكدا ''لا يجوز لأحد سواء كان سلفيا أو غيره إقامة الحد أو القصاص لأن هذا الأمر من اختصاص الحاكم أو القاضى وأى إنسان يحاول أخذ اختصاص القاضى أو الحاكم يعد معتديا ولابد من معاقبته باعتباره افتأت على الدين أو على حق القاضى أو الحاكم''. وأضاف أن مثل هذه الحوادث التى يطلق عليها ما يسمى بالقصاص الشعبى ربما تكون زادت فى الفترة الأخيرة فى ظل غياب الأمن والقانون لكن المؤكد أنه لو تولى كل إنسان إقامة العقوبات بنفسه سادت فوضى اجتماعية عارمة فى مصر. وأفاد بيومى: الرسول صلى الله عليه وسلم كان يتحاشى إقامة الحدود ويقول ''تعافوا الحدود فيما بينكم فما بلغنى من حد فقد وجب'' صدق الرسول الكريم .. متسائلا ''كيف لهؤلاء الأشخاص تأخذهم الجرأة لإقامة حد من حدود الله.. مع العلم بأن كل هذه الحوادث محاطة بالشبهات وشبهة واحدة تسقط الحد؟!''. وشدد عضو مجمع البحوث الإسلامية: ليس من حق أحد هدم الأضرحة أو قطع يد آخر لأن هذا الحق من مهام ولى الأمر سواء كان حاكما أو قاضيا وليس عامة الناس منعا للفتن والخصومات بين الأشخاص وبعضهم البعض. وخلص إلى القول: الحد من هذه الظاهرة يتطلب مزيدا من المعرفة بالدين بالأحكام الشرعية وعدم السماح لأحد أن يتخذ من نفسه وليا ''حاكما أو قاضيا'' لأن الدين لا يعطى سلطة ولى الأمر إلا لولى الأمر أما دون ذلك فهو تشويه لصورة الدين الإسلامى وإسقاط لهيبة الدولة. انهيار دولة القانون تقول تهانى الجبالى- نائب رئيس المحكمة الدستورية العليا: ما يحدث فى الآونة الأخيرة هو انهيار لدولة القانون وهيبته وتغييب لسلطة القضاء وتهميشها. فعندما يأخذ كل شخص حقه بيده فى المجتمع سنتحول إلى غابة تقوم على قانون الغاب، وهذا انتهاك صريح للدولة المصرية وليس انتهاكًا لفرد بعينه، وإذا استمررنا على نحو هذه الشاكلة ستنهار الدولة. والأخطر من ذلك هو ظهور أشكال وتكوينات تدعو إلى أخذ الحق باليد وبالعنف ما يسمى بالمحاكم العرفية فى الإخوان المسلمين، وأيضًا الجماعة الجهادية التى أعلنت عن نفسها من سيناء، والتى أكدت أن لديها ستة آلاف مسلح سيقومون بتنفيذ الأحكام بأيديهم، وهذه كلها مؤشرات خطيرة. وعن رأيها فى الأسباب التى أدت بنا إلى هذه الأحداث، أكدت المستشارة تهانى أن السبب الرئيسى وراء كل ما يحدث هو حالة السيولة التى يعيشها المجتمع بعد الثورة فى ظل عدم التواجد الأمنى وغياب الشرطة بجانب التصالح فى عدة جرائم مثل قطع الطريق والسرقات، وحوادث الاعتداء على الأخوات من الطوائف الأخرى، فكل هذا يحدث فى مرحلة حرجة ولو لم تواجه بسلطة القانون وبالدفاع عن مقومات الدولة مثل القضاء سندخل فى دائرة الانفلات والانهيار. وترى تهانى الجبالى أن الحل يكمن فى عدة محاور: المحور الأول والأساسى هو الشرطة، فنحن بدون شرطة سنتعرض لما هو أسوأ، لذا فنحن فى حاجة إلى أياد تبنى، وفى حاجة أيضا لأفكار وآراء مبدعة تبحث فى الأفق للخروج من الأزمة، وفى حاجة أكبر للاستماع إلى الخبراء الأمنيين الذين لهم باع فى المجال الأمنى، وأنا أقترح مائدة مستديرة لوضع استراتيجية أمنية تعمل على إعادة الشرطة للمجتمع من جديد. أما المحور الثانى فهو: القانون، فلابد من مواجهة كل هذه الجرائم بسلطة القانون، وبعدها يأتى المحور الثالث وهو القضاء فهو ملاذنا الأول والأخير. غياب دور الدولة ويعقب المستشار محمد عيد سالم- الأمين العام لمجلس القضاء الأعلى نائب رئيس محكمة النقض - على الأحداث قائلاً: ما يحدث الآن فى الدولة هو موضع اهتمام المركز القومى للبحوث الجنائية، فالظاهر للناس الآن أن هناك غيبة للدولة، ودورها فى ضبط القانون. فعندما لا يشعر المواطن بأى ردع للمجرمين، ويرى أن الدولة لا تقوم بدورها ولا يوجد شرطة، فالحل البديل هو أن يثأر كل واحد لنفسه، لكن عندما يشعر أن الدولة تقوم بدورها، وأن هناك أمنا وشرطة، فلن يفعل ذلك. والكارثة الحقيقية أن أى ضابط الآن يحاول القيام بدوره، نتهمه باستخدام القوة المفرطة ويثور الناس على الداخلية ويهاجمونها مما أدى إلى ضياع الداخلية وانهيارها. فالمفترض فى أى مكان أن ولى الأمر هو الذى يتولى موضوع القصاص فى حدود معينة، لكن ولى أمرنا اليوم غير موجود، فالداخلية منهارة، والأقسام لم تعد لطبيعتها بعد. وهناك نوع من الهياج على مستوى المجتمع كله فى جميع قطاعات الدولة. لذلك فأنا أرى أنه لن تقوم للدولة قائمة إلا بعد أن تعود هيبتها، ولن تعود هذه الهيبة إلا فى حالة تطبيق القانون على الجميع، فكل شخص يخطئ عليه أن يعاقب سواء كان من الثوار أو الفجار، وهذا لكى تعود هيبة الدولة، فالقانون على الجميع ولا فرق بين شخص وآخر. وأنا أقول لمن يدافع عن حقه فى المظاهرات: دافع عن هيبة دولتك وقوانينها. وهنا يتساءل المستشار محمد: أليست هذه هى الفوضى المنظمة؟! أليس منا رجل رشيد أو امرأة ينقذ الدولة؟! فإن دققنا النظر فى مجتمعنا لوجدنا أن الأطباء معتصمون والمهندسين والمدرسين، فالمجتمع كله فى حالة ثورة غير منظمة، نتج عنها تخبط فى أنظمة الدولة وأدى ذلك إلى عدم شعور المواطن بالأمن لدرجة أننا أصبحنا ندافع عن حرية الإجرام، وليس عن حق المواطن. فالحل هو أن يُعامل المجرم أيا كان بالقانون، حتى يصبح عبرة لغيره، وحتى لا يضطر المواطن للثأر لنفسه. بلطجة فى صورة قصاص شعبى من جهته وصف الخبير والمحلل الاستراتيجى اللواء محمود خلف ظاهرة ''أخذ الحق باليد'' بالإجرامية قائلا: هذه الحوادث البشعة كانت تحدث فى السابق بشكل فردى لكنها زادت بشكل لافت فى الفترة الأخيرة خاصة فى المناطق الشعبية نتيجة الانفلات الأمنى وعدم استرجاع الشرطة لكامل عافيتها وإحكام قبضتها على البلطجية والمجرمين والمسجلين خطر والخارجين على القانون. وأكد خلف: تكرار مثل هذه الحوادث يعد رد فعل طبيعى لتردى الأوضاع الأمنية فى الشارع المصرى بعدما طفح الكيل بالمواطنين فقرروا أخذ حقهم بأيديهم لكن هيبة الدولة لا تسقط بسبب بعض الجرائم التى يرتكبها غير الواثقين فى قدرة الشرطة والقضاء على استرداد حقوقهم، والحق يقال أن مثل هذه الحوادث لا تعد قصاصا شعبيا مثلما يتصور البعض بل بلطجة ولا يمكن وصف فاعليها سوى بالبلطجية. وأضاف الخبير الأمنى: لا أعتقد استمرار هذه الظاهرة فى ظل تفعيل بعض مواد قانون الطوارئ إضافة إلى عودة القبضة الأمنية إلى الشارع المصرى بمرور الوقت مع زيادة الوعى لدى المواطن بسوء تداعيات القيام بمثل هذه الجرائم على الفرد بشكل خاص وعلى المجتمع بشكل عام. شريعة الغاب أما اللواء خالد القاضى - عضو مؤسس بالائتلاف العام لضباط الشرطة - فقال: فى الماضى كان المواطنون يلجأون إلى القضاء عندما يتعرضون لأى ظلم من أى شخص لكن يبدو أن بعضهم قرر فى الفترة الأخيرة أن يأخذ حقه بيده ولو طال أن يأخذ أكثر من ذلك سيأخذ بما تمليه عليه ثقافته الشعبية المحدودة. وعلى غير المتوقع نفى القاضى وجود انفلات أمنى فى الفترة الأخيرة .. موضحا: يخطئ من يصرّ على وجود انفلات أمنى مثلما كان عقب ثورة 25 يناير مباشرة لكن هناك انفلاتا أخلاقيا دفع البعض إلى اللجوء إلى شريعة الغاب للحصول على حقه مهما كلفه الأمر ودون اكتراث بأن ما يفعله يضره فى المقام الأول كما يضر المحيطين به. ووجه القاضى اتهامه إلى الإعلام المصرى قائلا: للأسف الشديد لعبت وسائل الإعلام المختلفة دورا سيئا فى الإيعاز للناس بأن الشرطة كلها فاسدة رغم أن الفساد كان منتشرا فى كل مؤسسات الدولة لكن الشرطة دفعت فى النهاية ثمن فساد دولة بأكملها، وبالتالى اهتزت ثقة المواطنين فى جهاز الشرطة وقرروا أن يفعلوا ما يحلو لهم دون تفكير فى عواقب ما يفعلون من جرائم يعاقب عليها القانون. واختتم القاضى قوله بالمطالبة: لابد أن تقوم أجهزة الشرطة بالمصارحة والمكاشفة وتطهير نفسها وفى المقابل لابد أن يقوم العاملون بوسائل الإعلام المختلفة على تحسين صورة الشرطة فى مصر خاصة أنه لا يوجد أى دولة فى العالم بدون جهاز أمنى إضافة إلى ضرورة أن يحتكم الجميع إلى القانون وضرورة نشر ثقافة القانون بين المواطنين والعمل على تطبيق القانون بشدة وحزم.