ما أثقل وأقسى الكلمات عندما تضطر أن تنعى أستاذًا كبيرًا، وصديقًا عزيزًا، وأخًا نبيلًا.. ولكن ما أصدق كلمات الرثاء فى رحيل «النبيل». كان موعد لقائنا الأول فى 2005 بمؤسسة روزاليوسف، كان يشغل وقتها مديرًا للتحرير وكنت محررًا لشئون الطيران.. بدأت الصداقة بيننا بقرار مشترك لأننى أميل فى التعامل مع يتعامل برقى واحترام، وهو كان مثالاً لهذا وذاك.. تطورت علاقتنا من زمالة إلى صداقة وطيدة وعميقة.. بعد أن أصبح رئيس تحرير لمجلة صباح الخير، استطاع إحداث نقلة نوعية بعدد من الشباب والشابات النابهات ليعود بالمجلة لرسالتها الأولى «للقلوب الشابة والعقول المتحررة». إنه الكاتب الصحفى الكبير النبيل محمد عبدالنور. فى مكتبه بمجلة صباح الخير كانت جلستنا.. وبمقهى أرابيسك المجاور لروزاليوسف كانت لنا عشرات اللقاءات.. وهنا وهناك كانت لدينا المئات من فناجين القهوة التى احتسيناها سويًا وسط حوارات عن هذا وذاك. .. قبل رحيله بيومين جمعتنى به مكالمة كنت فيها غاضبًا وكان كعادته هادئًا.. محاولًا امتصاص غضبى على أشياء بدت لى فى مسار خاطئ، واتفقنا أن نلتقى فى اليوم التالى، ولكن عاندتنى الظروف ولم نلتق.. ولم أكن أعرف أنه اللقاء الأخير. .. بطبيعتى أكره الاتصالات بعد منتصف الليل، وكان هذا الاتصال من أحد أصدقائى متسائلًا: «هو محمد عبدالنور مات»، وما بين الصحو والغفوة تلقيت الصدمة ولم أصدق حتى تلت الاتصالات من جانب الزملاء، فشعرت بأننى أمام ليلة كئيبة تنذر برحيل صديقى العزيز.. محمد عبدالنور كان مثالاً للأناقة الأخلاقية قبل أن يكون مثالاً للأناقة الشخصية.. كان راقيًا بأفكاره وتعاملاته.. ومبتسمًا فى كل حالاته.. صادقًا فى أحاديثه.. محبًا للجميع. خلال دقائق ارتديت ملابسى، ولكننى لم أعثر على مفتاح سيارتى، رافضًا فكرة استقلالى لتاكسى لمنزل صديقى خشية أن تتساقط دموعى أمام السائق، لم أتفهم رغبتى فى الانفراد داخل سيارتى استعدادًا لذرف المزيد من الدموع. وصلت سريعًا إلى منزل صديقى العزيز.. قاطعًا شوارع القاهرة التى بدت مظلمة وكئيبة بعد أن بللت دموعى نظارتى الطبية عدة مرات.. وصلت أمام بيته فى مصر الجديدة متذكرًا زيارتى الوحيدة له قبل شهور. دخلت منزله وجدت زوجته الوفية المخلصة الإعلامية هالة حشيش تردد كلامًا لم أتفهمه وبمجرد رؤيتى قالت: «هانى.. محمد الجميل ده مات؟!.. أنت مصدق؟!، محمد الجميل مات يا هانى ».. لم أتمالك دموعى وعجز لسانى عن الرد.. ولكن أعتقد بأن دموعى كانت كلمات صامتة، ولكنها صارخة على فقدان صديقى الودود العزيز. عدت لمنزلى وأنا أشعر بأن هناك جزءًا من الأشياء الجميلة بالحياة قد اختفى.. قضيت ليلتى الحزينة وسرعان ما توجهت لبيته فى الصباح لألقى نظرة الوداع على عزيزى.. وضعت يدى فوق رأسه قارئًا له فاتحة الكتاب وطالبًا من الله له الرحمة والمغفرة.. توجهنا للمسجد وجلست أقرأ له القرآن حتى صلاة الجنازة لأرافقه فى رحلته الأخيرة إلى مثواه الأخير. لمن يقرأ كلماتى تلك، إذا كنت تعرف الراحل فإنك بالتأكيد تعرف أن محمد عبدالنور شخصية نادرة فى الرقى والنبل وكرم الأخلاق.. وإن كنت لا تعرفه فتأكد أننا قد فقدنا رجلاً قد لا تلتقى بمثله مجددًا، وإذا قابلت.. فصادقه لأن هؤلاء كالشهب تظهر فجأة وتختفى فجأة.. فحاول أن تحبه وتحترمه حتى فيما بعد مثواه الأخير. ... فى النهاية انطفأ «النور» ومات محمد عبدالنور، مات الرجل الذى أحبه الجميع.. مات الرجل الذى عاش لطيفاً ومات نبيلاً.. فأنت تشبه من قال عنه محمود درويش «كم يشبهك الوطن. وكم تشبه الوطن ».