لاتزال الدولة المصرية ماضيةً فى مسارها التفاوضى مع الجانب الإثيوبى رُغْمَ كل ما جرَى من جانب واحد من المفاوض الإثيوبى، الذى رفض كل الرُّؤَى والتصورات المطروحة للتفاوُض الجاد والمباشر، وإعادة تحديد إطار قانونى وفنى مُلزم يشمل الجميع. فرُغْمَ جولات التفاوض التى باشرها الاتحاد الإفريقى ولاتزال قائمة، وبمشاركة البنك الدولى ومراقبين متعددين ومتابعة من مجلس الأمن الذى خصص جلسة استطلاعية لأعضائه لمناقشة ملف سد النهضة الذى بات شأنًا دوليّا وليس إفريقيًّا، أو فى دائرة ثلاثية، كما يتوهم الجانب الإثيوبى، الذى لايزال مُصممًا على التفاوُض المفتوح، وعبر سلسلة من المراوغات المتعددة التى أدت إلى حائط صد. سيتابع الاتحاد الإفريقى التفاوض فى دائرته المتخصصة للتوصل إلى اتفاق مُرضٍ ومقبول للجانبين المصرى والسودانى قبل الملء الثانى، وهو الأهم، الذى سيرسم السيناريو الحقيقى للتفاوض على أسُس واقعية وأمام الأطراف المَعنية عدة أشهُر للتوصل لاتفاق نهائى. سيبقى الملف فى دائرته الإفريقية على الأقل فى مساحة الحركة الإفريقية الراهنة، وهو ما يعنى أن التحرُّك المصرى سيبقى فى دائرة التفاوض ولن يذهب إلى مجلس الأمن إلا بعد أن يستوفى الأطراف المَعنية مسار التفاوض؛ سعيًا وراء التوصل لاتفاق سياسى وقانونى وفنى يقر بقواعد التشغيل، وتحديد إطار العمل ليس فى مشروع سد النهضة؛ وإنما فى منظومة السدود الأخرى التى تعتزم إثيوبيا القيام بها وتدشينها فى الفترة المقبلة. إطار الحركة حقق المفاوض المصرى فى الجولة الأخيرة للمفاوضات حول سد النهضة عدة نجاحات، منها الدفاع عن حقوق مصر المائية فى إطار القانون الدولى وفضح سلوكيات المفاوض الإثيوبى من تعنت وإنكار لأساسيات القانون الدولى أمام مراقبين دوليين من ثلاث قارات، وإقرار الشريك السودانى بالتعنت الإثيوبى ضد مصالح وسلامة شعبهم من مخاطر سد النهضة، أيضًا عدم جدوَى التفاوض المفتوح مع إثيوبيا تمهيدًا لمطالبة المجتمع الدولى بالقيام بدوره، وتحمُّل مسئوليته قبل انفلات الزمام فى داخل الاتحاد الإفريقى الذى لايزال ممسكًا بإدارة الملف بكل تفاصيله. والخلاصة من البيانات المصرية أو السودانية؛ أننا نتعامل مع دولة غير مسئولة لا تحترم طرفَى التفاوض، بل إذا احترمْتها تزداد تهورًا، والمشكلة الكبرى أن هذه الدولة التى تفتقد الاستقرار والتجانس والخدمات وضعف البنية الأساسية تقوم بهذه الممارسات غير المسبوقة من دون إمارة أو دليل أو برهان. والسؤال: مَن يستخدمها لهذه المؤامرة على مصر والسودان، ومَن يقف وراء هذا الأمر، وما هو الهدف من جَرّ مصر إلى نزاع علنى مع هذه الدولة؟. وقد سعت إثيوبيا إلى الحصول على حق مطلق فى إقامة مشروعات فى أعالى النيل الأزرق، فضلًا عن رفضها الموافقة على أن يتضمن اتفاق سد النهضة آلية قانونية مُلزمة لفض النزاعات، كما اعترضت إثيوبيا على تضمين الاتفاق إجراءات ذات فعالية لمجابهة الجفاف. كما ذكر وزير الرى، إنه رُغْمَ طول أمَد المفاوضات على مدار ما يقرب من عَقد كامل؛ فإن مصر انخرطت فى جولة المفاوضات التى دعا إليها السودان بحُسن نية سعيًا منها لاستنفاد واستكشاف كل السُّبُل المتاحة للتوصل إلى اتفاق عادل ومتوازن حول سد النهضة، بما يؤمّن لإثيوبيا تحقيق أهدافها التنموية من هذا المشروع، مع الحد، فى الوقت ذاته، من الآثار السلبية والأضرار التى قد يُلحقها هذا السد على دولتَى المصب. الهدف المصرى يستند الهدف المركزى المصرى فى مد فترة ملء سد النهضة بالقدر الذى يسمح بوجود فيضانات عالية تعوّض جزءًا من نقص المخزون، بحيث لا يقل منسوب المياه أمام السد العالى عن منسوب حرج (165م)، وهو الأدنى الذى يستطيع حماية مصر من موجات الجفاف كما أثبتت الخبرات المصرية الماضية، وتقليل معدلات التخزين أمام سد النهضة فى سنوات الجفاف لضمان عدم نزول منسوب مخزون السد العالى عن المنسوب الحرج، وفى حالة أخذ هذه الضمانات تستطيع مصر المحافظة على حصتها وعدم المساس باستخدامات البلاد فى جميع المجالات، باستثناء انخفاض كبير فى كهرباء السد العالى؛ خصوصًا فى سنوات الجفاف، وقد تم الاتفاق على هذه القواعد للتخزين فى وثيقة واشنطن فى 21فبراير الماضى. وبخصوص تشغيل السد كان قد تم الاتفاق فى هذه الوثيقة على أن تمرر إثيوبيا من السد بعد الانتهاء من الملء تصرفات النهر الطبيعى فى السنوات المتوسطة والعالية، وفى سنوات الجفاف تقوم إثيوبيا بصرف كمية من المخزون زيادة عن تصرف النهر الطبيعى للحفاظ على المنسوب الحرج للتخزين فى السد العالى. وطبقًا لقواعد التوارث الدولى التى أقرّتها اتفاقية فيينا لعام 1978 تظل دول حوض النيل مُحمَّلة بمسئولياتها الدولية السابقة على استقلالها. ومع ذلك؛ فإن دول المنبع (إثيوبيا، أوغندا، تنزانيا، رواندا، بوروندى وكينيا وجمهورية الكونغو الديمقراطية وإريتريا وجنوب السودان) تعارض التوجه المصرى وترى بأن الأنهار الدولية العابرة للحدود مسئولية مشتركة لكل من دول المنبع ودول المصب. ومن جهة أخرى؛ فإن اتفاقية حماية واستخدام مجارى الأنهار والبحيرات الدولية لعام 1992 التى دخلت حيز التنفيذ بعد تصديق نحو أربعين دولة عليها، ليس من بينها مصر وإثيوبيا، لا تُحدّد طريقة لتسوية المنازعات. إنها تؤكد بالأساس على مبدأ حل المنازعات بالوسائل السلمية. وعليه فإن الخيار القانونى أضحَى غير مضمون العواقب بالنسبة لمصر. ومع ذلك؛ فإن اتفاق المبادئ الخاص بسد النهضة قد تمت صياغته بشكل يؤكد على بعض البنود الواردة فى اتفاقات تقاسم المياه السابقة، ولاسيما اتفاقية عام 1929 واتفاقية عام 1959، وكذلك الاتفاق الإطارى للتعاون بين مصر وإثيوبيا المُوَقّع عام 1993. الهدف الإثيوبى يرتكز الهدف الجوهرى لإثيوبيا فى عدم الالتزام بما جاء أعلاه أثناء فترة الملء؛ خصوصًا فى فترات الجفاف المختلفة وعدم الالتزام فى التشغيل بتمرير التصرفات الطبيعية للنهر من السد واقتطاع جزء منها لإثيوبيا عندما تحتاجها (حصة مائية خصمًا من مصر والسودان)، وعدم صرف أى كميات من المخزون فى سنوات الجفاف فوق تصرفات النهر فى سنوات الجفاف. أمّا تبعات المقترح الإثيوبى فهى تُعَرّض مصر لموجات جفاف تدمّر الأخضر واليابس وتداعيات سلبية على مياه الشرب والصناعة والملاحة وغيرها، ولا تستطيع مصر تَحَمُّلها أو التعايُش معها، كما ينحصر التعثر الحقيقى الذى أدى إلى فشل المفاوضات حتى الآن فى الجوانب القانونية على النحو التالى: - عدم موافقة الحكومة الإثيوبية على إدراج التفاصيل الرقمية من تصرفات ومناسيب مياه سد النهضة الخاصة بقواعد ملء وتشغيل سد النهضة فى بنود الاتفاقية، وحصر استخدامها كمُحددات إرشادية وليست إلزامية، بل يمكن تحديثها أو تعديلها دوريّا من قِبَل إثيوبيا وبشكل أحادى. - عدم موافقة إثيوبيا على خطوات فعالة لحل النزاعات التى قد تنشأ بين دول الاتفاق، مثل اللجوء إلى القضاء، ولا تريد أن تُصَعّد الأمرَ أكثر من رؤساء الدول. - رفض الطلب الإثيوبى المُطالب بالانتهاء من إعادة تقسيم مياه النيل بين الدول الثلاث خلال فترة لا تتعدّى 10سنوات، لخروج هذا الطلب الإثيوبى عن الإطار العام لملء وتشغيل سد النهضة. لقد استطاعت الحكومة الإثيوبية الترويج لبرنامجها الخاص لبناء السدود من خلال خطاب التنمية الخضراء صديقة البيئة، وذلك لدعم الروابط مع الولاياتالمتحدة والدول الغربية. كما أن دخول الصين كطرَف مهم فى تمويل إنشاء مشروعات البنية الأساسية المائية فى دول حوض النيل قد أضاف تعقيدات أخرى على الموقف المصرى فى مواجهة هذه التحديات الإقليمية الجديدة. إن إثيوبيا تقوم ببناء خمسة سدود أخرى غير سد النهضة؛ حيث استطاعت كما حدث فى حالة سد جيبى 3 حل مسألة التمويل من خلال اللجوء إلى الصين وتجاوُز القوى المانحة التقليدية مثل البنك الدولى وبنك الاستثمار الأوروبى. مسارات التفاوض المسار الأول: مجلس الأمن، وهو المتوقع والمُعلن حال الفشل فى الاتحاد الإفريقى، وإن كان سيحتاج هذا المسار لجهد مصرى كبير، وترتيب دبلوماسى كامل لمصر مع دول المجلس الدائمين وغير الدائمين، وقد يكون نقل الملف إلى مجلس الأمن الخطوة الأولى لتدويل الأمر، بصرف النظر عن إمكانية صدور قرار من المجلس بوقف التشغيل بسياسة الأمر الواقع والانتظار إلى حين أن يتم التوافق، وهو أمرٌ يحتاج إلى تنسيق وجهد مصرى ودعم «أمريكى- فرنسى- روسى- بريطانى- صينى»، أى الدول دائمة العضوية، فهل ستترك إثيوبيا الأمرَ لمصر أمْ أنها ستلجأ إلى الخطة (باء) وعرقلة هذه الخطوات فى مَهدها، وتشتيت تحركات مصر فى اتجاهات عدة؟. المسار الثانى: التحرُّك تجاه المؤسّسات والهيئات المانحة لوقف عملها فى السد، وهو أمرٌ يتطلب تحرُّكًا دوليّا كبيرًا للضغط بقرار دولى مُلزم بوقف ما تقوم به هذه المنظمات وما وراءها من دول، وهو قرارٌ مشابه لوقف الشركات والمؤسّسات الدولية التى تعمل فى المستوطنات الإسرائيلية وتجريم العمل معها، وستحتاج مصر إلى جهد متراكم للوصول إلى هذا الأمر فى إطار حرب مفتوحة دبلوماسية مع إثيوبيا ستستخدم فيها كل الوسائل المتاحة، وغير المتاحة للوصول للهدف الاستراتيجى، وهو تعطيل تشغيل السد ما لم يتم الاتفاق بشأن قواعد العمل. المسار الثالث: إعادة التفاوض بناءً على دخول وسطاء جُدُد إلى جانب الوسيط الأمريكى والاتحاد الإفريقى حال فشله فى أداء مهمته الراهنة، وهو الأمر الذى قد يوسع دائرة التفاوض ويُكسب الجانب الإثيوبى مزيدًا من التحدى فى ظل كسب الوقت والاستقواء بالجانب الأمريكى، الذى قد لا يقبل فعليّا إطارًا أوسع للتفاوض؛ حيث لا توجد سوابق مشابهة لهذا الأمر، بل بالعكس قد تضع الولاياتالمتحدة عراقيل وعثرات أمام مصر لتحقيق ذلك، والتى ستخسر رهانها فى حال تمدّد عمل المفاوضات من دون الوصول لنقاط محددة وحاسمة وسيكون الرابح الأول والأخير الجانب الإثيوبى. المسار الرابع: القبول ببقاء التفاوض المفتوح، ومن دون إطار زمنى وصولًا إلى مرحلة الملء الكامل، وربما يكون هناك انفراجة فى الموقف مع عدم التعويل على احتمالات انهيار المَشهد السياسى فى إثيوبيا، أو رحيل الإدارة الأمريكية الحالية والبدء من جديد، إضافة إلى اتباع مصر استراتيجية غير مُعلنة لتحقيق أهدافها مع الدخول فى مقايضات إقليمية ودولية جديدة لا تقترب أو تقر بتحقيق الأغراض الإثيوبية من استمرار التعنت، ومنها إعادة تدوير فكرة تسعير مياه مقابل النفط أو إدخال أطراف إقليمية كبرى مثل إسرائيل فى أى تفاوُض مستجد، وهو ما تضعه مصر فى تقييماتها. المسار الخامس: حدوث توافقات «مصرية- عربية- إفريقية» تدفع بتجميد الاستثمارات العربية، وتغيير مواقف الدول الإفريقية ودخول الاتحاد الإفريقى، والجامعة العربية على خط دعم مصر بصورة مباشرة، ما يضع إثيوبيا فى دائرة محددة بهدف محاصرة سياسات إثيوبيا فى الإقليم بأكمله؛ خصوصًا أن تمدّد الدَّور الإثيوبى سيحتاج إلى مراجعات من دول عربية وإفريقية، كما يحتاج إلى جهد عربى داعم لمصر، وسياسات حقيقية وليست أنصاف حلول مع اتباع قاعدة النفعية لكل طرف، وليس لمصر فقط. الخلاصة إن الجانب الدولى مُمَثلًا فى الولاياتالمتحدةوالصين قادرٌ على ثنى الجانب الإثيوبى ودفعه إلى الانخراط الجاد فى المفاوضات للتوصل لاتفاق عادل مُرضٍ لكل الأطراف، هذا إن توافرت الإرادة السياسية الدولية حرصًا على الأمن والسلم الدوليين، باعتبار أن إشكالية سد النهضة تفاوضًا وتشغيلًا وتعاملًا بات شأنًا دوليّا، وليس إفريقيًّا بمعنى الكلمة.