يظهر فى الكثير من الأفلام الوثائقة التى تؤرخ لقرار الزعيم جمال عبدالناصر بتأميم الشركة العالمية لقناة السويس البحرية، مثلما لا تخلو الذاكرة من مشاهد للمبنى فى الأفلام التى أرخت للعدوان الثلاثى على المدينة الباسلة فى 1956، «مبنى القبة أو الدار البيضاء» كما أطلق عليه المؤرخ فؤاد فرج فى بداية القرن العشرين. على الضفة الغربية لمدينة بورسعيد، وعلى ضفاف الممر الملاحى للقناة، يتربع المبنى التاريخى الرئيسى لمكاتب وإدارات شركة قناة السويس، الذى كان ومازال يستخدم لمتابعة حركة السفن المارة، وقد أقيم- كما يقول مدير عام آثار بورسعيد وبحيرة المنزلة، الباحث طارق إبراهيم الحسينى، لحاجة شركة قناة السويس العالمية، لهذا الشكل من المبانى، ليضم هيكلها الإدارى، من مكاتب الموظفين ومتابعة السفن، ومكاتب للكراكات، وأخرى لتحصيل الرسوم على المراكب، وموظفى صيانة السفن، ووقع عقد بناؤه فرديناند ديلسبس، وكان يقيم فيه رئيس الشركة الفرنسى. يقع المبنى التاريخى الأثرى فى حى الشرق «الأفرنجى سابقا»، فى نهاية شارع الجمهورية، وتحيطه المياه من ثلاث جهات، وتشرف واجهته الشرقية على الممر الملاحى للقناة، بما يعرف بحوض إسماعيل، والجهة الشمالية معروفة بحوض التجارة، والجنوبية تشرف على حوض الترسانة أو «حوض شريف باشا»، ولهذا فالمبنى يتميز بإطلاله على أحواض القناة وإشرافه على المجرى الملاحى«المدخل الشمالى للقناة»، إلى جانب ما يحيطه من مبان أثرية وتراثية. تاريخ المبنى يحكى مدير آثار بورسعيد، طارق الحسينى تاريخ المبنى الذى سجل كأثر إسلامى بقوله: بدأ التحضير لبنائه عام 1890، عندما أرادت شركة قناة السويس بناء مقر حديث لها، بدلا من المقر الخشبى القديم، ووقع اختيار الشركة على المعمارى الباريسى شارلى مارتان، ليضع التصميمات، ووجهت له الدعوة ليأتى إلى مصر ليصمم بعض المشروعات الأخرى، بالإضافة لمبنى القناة، من بينها مبنى مدرسة للبنين ببورتوفيق بالسويس.. وفى 1891 قدم المعمارى ملفًا كاملاً بالمشروع، وضح فيه أن المبنى سيقام على مساحة 2230 مترًا مربعًا، ويتكون من مبنى مركزى، يمتد من الشمال للجنوب، ويتكون من ثلاثة طوابق، يعلوه ثلاث قباب: القبة المركزية الوسطى، وقبتان جانبيتان، قائمتان على هياكل معدنية حديدية من الداخل، ويكسوها ويزخرفها من الخارج بلاطات خزفية باللون الأخضر، تشبه قبة جامع الناصر محمد بن قلاوون بالقلعة بالقاهرة. ويمتد من المبنى المركزى جناحان من الشرق ومن الغرب، على غرار المبنى المركزى إلا أنهما يتكونان من طابقين فقط. ويتابع الحسيني: فضلت الشركة التعاقد مع شركة مقاولات إيدمون كونيه للكتل الخرسانية، للقيام بأعمال البناء، وهى الشركة التى كان قد سبق لها تصميم وبناء فنار بورسعيد، على يد مؤسس الشركة الأول فرانسوا كونيه، عام1869، بتقنية «خرسانة كونيه»، التى أثبتت فاعلية كبيرة، ففضلت شركة قناة السويس استعمال طريقة الكتل الخرسانية فى المبنى الجديد. ووقعت شركة قناة السويس عقد المواصفات والأسعار مع «كونيه» فى 1892، واتخذت الخطوات الأولى نحو البناء فى 1893. وفى أول مايو 1895 تم توصيل الخدمات للمبنى، وبعدها بشهر تم تسليم المبنى لشركة قناة السويس فى يوليو من العام نفسه، وظل المبنى تحت الاختبار إلى عام 1920. استراحة كبار الزوار وبحسب مدير آثار بورسعيد، طارق الحسينى، ألحق بالمبنى استراحة لكبار الزوار، وهى التى استقبلت الخديو عباس حلمى الثانى 1911، والملك جورج الخامس ملك بريطانيا..وخلال الحرب العالمية الأولى، اشترت بريطانيا المبنى ليكون مقرًا لقيادة الجيش البريطانى فى منطقة الشرق الأوسط، واتخذه استكويل قائد القوات البريطانية خلال العدوان الثلاثى مقرًا له، وظل بها حتى تم جلاؤهم عن مصر فى يونيو 1956، كآخر قاعدة لبريطانيا فى منطقة القناة..ومن هذا المبنى تعاقب على إدارة الشركة العالمية لقناة السويس، خمسة رؤساء أجانب، بداية من افتتاح المبنى فى 1895 وحتى التأميم، لم يكن من بينهم ديليسبس، صاحب التوقيع على المشروع، ويأتى الدكتور حلمى محمد بهجت فى المركز السادس، كأول مصرى يدير الشركة ويرأس قناة السويس، واستمر فى المنصب عاما كاملا حتى يوليو 1957. مبنى فرنسى بهلال وقبة إسلامية شيد المبنى على طراز عصر النهضة الفرنسى، المستحدث أو الاحيائى، وبه تأثيرات من الطراز الإسلامى فى شكل القباب الخضراء، التى تعلوها الهلال، وفى حين يشير الهلال فوق قباب المساجد والمآذن إلى اتجاه القبلة، يشير هلال المبنى إلى اتجاه الشمال، وتتميز قبابه بأنها مغطاة ببلاطات من الخزف الأخضر. ويؤكد الحسينى أن المبنى الآن يجرى له ترميم وإعادة تأهيل، لأنه يعد أبرز العلامات العمرانية والمعمارية التراثية المميزة لمدينة بورسعيد، بوابة قناة السويس الشمالية، كما يعد أول ما يتبادر للذهن عند ذكر قناة السويس ومدينة بورسعيد، كأيقونة تتلألأ فى الذاكرة والعيون، تحمل تاريخ العابرين، لهذه البقعة الساحرة من كل بلاد البحر المتوسط. ويرى الباحث بوزارة الآثار سامح الزهار، أن المبنى من أهم الآثار المصرية الإسلامية، وشاهد على فترة ماقبل تأميم القناة، مرورًا بالحربين العالميتين، وجلاء الإنجليز عن مصر، ويعتبر المبنى الخشبى القديم الذى تهدم، هو أول بناء شيده الخديو إسماعيل على شاطئ القناة ببورسعيد، وشيد على أنقاضه المبنى التراثى سنة 1895، وموقعه على مجرى القناة يمنحه أهمية أن يكون شاهدًا ومراقبًا على السفن العابرة فى الممر الملاحى. وامتزج فى بنائه الطرازان الإسلامى والفرنسى، فالقباب الثلاث الخضراء التى تعلوه، تضفى عليه طابعًا إسلاميًا، بجانب الزخارف والأسقف والنجف الذى يميز المبنى من الداخل، وكأنه مسجد، والبساطة والأناقة والترابزين الفورفورجيه التى تميزه تضفى عليه طابعًا معماريًا فرنسيًا.