دخل فى هدوء إلى عربة «مترو السيدات» حاملا كيسا من القماش - يبدو خفيفا من مظهره - فوق كتفه اليمنى، مرتديا قميصا أزرق وبنطلون يحمل تقريبا نفس اللون، وطاقية بيضاء صغيرة فوق رأسه وقد تناثر من أسفلها بعض من الشعر الأبيض، ونظارة طبية شفافة رفعها فوق رأسها كأنه أحد «چانات» السينما المصرية القديمة، ولكنها لم تكن مثبتة بخصل الشعر المترامية كما اعتدنا أن نراها أو حتى بسلسلة مذهبة تتدلى على رقبته من الخلف، إنما كان هناك ما هو أقوى من ذلك، إنه هذا «الأستك» المشدود جيدا الذى منعها من الانزلاق. هو بشكل عام مشهد يعكس فى مجمله وفى بساطته الحالة المادية المتواضعة جداً لعم على «صانع السعادة» كما وصفته فى نفسى قبل أن أعرف اسمه الحقيقى. وقف العجوز فى منتصف العربة واضعا ما يحمل على الأرض فى نشاط وهمة، أوحى لى وأنا على مقربة منه بأنه يملك كنزا على وشك إفراغ محتوياته، وبينما هو يقوم بفتح هذا الكيس الذى خنق هذا العجوز رقبته بحبال الغسيل، كنت قد سرحت بخيالى متسائلة عن أى المفاجآت يحمل لنا هذا العجوز. وبما أننا نعيش فى أجواء استقبال العام الجديد. أعاد هذا لى ذاكرة الطفولة والحلم الدائم ببابا نويل، وإن كان ذاك المصرى يبدو أكبر سنا وأكثر تجاعيد وانحناء، ولم تكن له أيضا تلك اللحية اللؤلؤية البيضاء التى أعرفها لصور وأفلام سانتا كلوز الغربى، كما أنه لم يكن يرتدى ملابس سانتا كلوز الحمراء البراقة والمزينة بالفرو، حتى «الطرطور» الصوفى الناعم استبدله عم على بطاقية بيضاء من القماش. إلا تلك الابتسامة الصافية التى لا تفارق وجنتيه الصغيرتين هى ما أثارت فضولى وجعلتنى أنتبه إليه بشكل جيد، فلم تكن مصطنعة أو يعلوها التكلف أو لزوم «التصوير»، وبينما أنا غارقة فى ملامحه وتفاصيل وجهه السمراء.. حتى قطع شرودى تلك «الزمارة» التى خرج صوتها فجأة بعربة المترو، والتى كانت إحدى مفاجآت العجوز حيث أدهشنى بقدرته على تلحين بعض الأغانى بها بصورة بدائية، ولكن جميلة تدفعك إلى الابتسام، وبالفعل جاءت نغمات زمارة عم على لتقطع ذلك السكون الذى يتخلله بعض الهمهمات المتناثرة، ولتجذب فجأة انتباه الراكبين المتفرقين ما بين جالس وواقف ليكتشفوا أنها زمارة عم على الذى وقف باسما إلى العيون المتعلقة به، فتظهر على وجهه بعض الخطوط التى ترسم معها بعض الابتسامات لهذا العجوز الذى جاوز السبعين والذى ينتقل فى خفة ورشاقة بين الركاب ببلوناته الملونة وزمارته صاحبة الصوت «المجلجل». نظراته المتسائلة حينا والآملة حينا آخر عمن سيشترى منه تلك البالونات مختلفة الألوان والأشكال، فمنها ما له ريش ومنها ما يحمل وجوه فراشات مرسومة تجعلك تنسى تماما احتياجه أو سؤاله الذى يداريه الحياء، فلم أر فيه متسولا أو طالب «حسنة»، إنما هو صانع بهجة يتكسب من بيع تلك البالونات. ثم التفت إلى إحدى الفتيات القريبة منه التى طلبت منه بالونة، ليسألها عن أى الألوان تريد؟! فنظرت إليه وهى تقول أى لون. فرد عليها «لازم تختارى اللون اللى تحبيه» عشان تنفخيها وأنت مبسوطة وبتضحكى»، وأعطاها ما طلبت بعد أن اختارت لونا أخضر، ثم أكمل طريقه بعربة المترو بين الركاب، فصادف طفلا صغيرا يبكى فأعطاه «زمارة» وأكمل رحلته بين الركاب إلى آخر العربة ليبيع لهذه ويضحك لأخرى فى عمر حفيدته، حتى استوقفته لأقطع عليه هذا التواصل الإنسانى العجيب وأنا أشترى منه إحدى البالونات ليدور بعد ذلك بيننا هذا الحوار، الذى لم يكن بى حاجة فيه إلى سؤاله عن سنه أو حالته الاجتماعية أو أي من هذه الفاصيل الروتينية، إنما سألته عما أثار فضولى وهى تلك الطاقة الجبارة التى تدفعه فى هذه السن للإقبال على الحياة بهذه الإيجابية؟ فقال موجزاً فى فلسفة عجيبة «أنا صحيح عجوز - عندى خمسة وسبعين سنة - وعندى أمراض كتير، لكن انتظار الموت هو موت بالبطىء، وكمان أنى أعيش حزين عشان معنديش فلوس هو كمان موت بالبطىء وأنا قررت إنى أعيش وبس لحد ما ييجى الموت لوحده». ودايما باستغرب الناس لما أدخل المترو كل يوم وألاقيهم مكشرين، أنا عارف إن كل واحد عنده مشكلة وأزمة ومسئولية لكن الهم مبيحلش مشاكل ولا بيخرجك من أزمة، ده بالعكس بيزود هرم التعاسة اللى فى حياتنا والبنى آدم عامل بالظبط زى لاعب السيرك اللى بيلعب ب «الكور» فى الهواء . كورة هى عمرك، وكورة شغلك ومستقبلك، وكورة حياتك وسعادتك طول الوقت بتحاول توازن بينهم، لكن لازم حاجة منهم تقع فى أى وقت. وأنا عرفت آخرة القصة عشان كده بحاول أسعد نفسى بأى حاجة مهما كانت بسيطة، وعشان الناس تضحك حتى ولو هى زعلانة لأن كتر الحزن يعلم البكا. وأنا رغم أنى بصرف على نفسى وعايش لوحدى فى أوضة صغيرة، لكن قررت إنى وأنا باشتغل مش هشحت ولو أبيع مناديل ولا ألف بسبح وبخور لا.. أنا الراجل العجوز اللى بيبيع بلالين وزمامير عشان يشوف الناس بتضحك. وقلبه يضحك معاهم ولما قلبى بيضحك مش بحتاج أروح لدكتور وأوفر فلوس العلاج وأشترى بيها أكل وبلالين. ثم استأذننى - باسما - فى النزول بالمحطة القادمة، حاملا كيسه واضعا فى فمه «زمارة». وقبل لحظات من نزوله وقف مستعدا أمام الباب وهو يقول مرددا «صحيح البنات ملايكة والرجالة شياطين». وبرغم أنه «رجل» إلا أنه كان ملاكا يجمع بين الطيبة والرحمة والرضا. إلا أننى تعلمت من فلسفته الحياتية، وتبدد حلمى الطفولى بالشغف لمقابلة «سانتا كلوز» الغربى، بعد أن وجدت سانتا كلوز المصرى بلا قفازين حريرين أو بدلة صوفية وأكثر دافئا، إنما أجد به قلبا أنقى من الحرير وأكثر دفئا من الصوف. •