العاشر من رمضان ليست مجرد ذكرى يوم انتصار على جيش العدو فقط لكنها ملحمة بطولة إنسانية نستلهم منها الكثير إذا ما دققنا فى تفاصيلها. ففى الوقت الذى نحاول فيه الآن التغلب على مشقة الصيام، بالهروب إلى المنازل والاعتكاف أسفل أجهزة التكييف والمراوح والاستعداد بما لذ وطاب عند الإفطار، كان هناك أبطال على الجبهة أيضًا صائمين، لكنهم كانوا يلتحفون بالشمس الحارقة ويمتطون المدرعات والدبابات على الأرض المشتعلة بالنار والبارود.
فرغم الإجازة الشرعية لهم بالإفطار أثناء الحروب إلا أنهم أصروا على الصوم بالرغم من احتياجهم الشديد لقطرات الماء التى تعينهم على الحرب- فى ذكرى العاشر من رمضان، ملاحم وقصص جسدها أبطال يروون هنا الآن بعض ما كان معهم فى مثل هذه الأيام.
المجموعة 39
جلست أستمع إلى أحد صُناع النصر فى رمضان وهو اللواء أ.ح محيى نوح - قائد المجموعة 39 قتال، وأحد تلامذة الشهيد البطل إبراهيم الرفاعى.
يقول اللواء محيى: كنا جميعا نصر على الصوم، ضباطا وجنودا وصف ضباط، بالرغم من إجازة الإفطار لنا، وجاء علينا الإفطار ولم نفطر، فكان كل منا مشغولا بعمله كخلية النحل لم نركز فى مسألة الجوع أو العطش.
وبالنسبة لى على المستوى الشخصى، فكانت لى ذكرى لا يمكن أن أنساها وهى لحظة استشهاد القائد والمعلم إبراهيم الرفاعى- قائد المجموعة 39 والذى زرع فى قلبى الحب على كل المستويات.
استشهد، وهو واقف معنا كالبطل المغوار أثناء تكليفنا بعملية تدمير المعبر الذى أقامه الإسرائيليون ليعبروا عليه عند منطقة الدفرسوار وكان ذلك فى العشرين من رمضان.
فعندما وصلنا إلى النقطة قسمنا الشهيد الرفاعى إلى ثلاث مجموعات: مجموعتان احتلتا إحدى التباب، والثالثة نظمت مجموعة من الكمائن على طول الجسر، وما إن وصلت مدرعات الاسرائيليين حتى انهالت عليها قذائف آربى جى لتثنيها عن التقدم، لكن البطل لم يكتف بالنصر وراح يطاردهم.
وهنا ظهرت دبابتان، فقام الشهيد بضربهما، لكن للأسف أصيب بطلقة استشهد على إثرها، فحملته وذهبت به إلى مكتب المخابرات، ورجعت وكلى حزن وإصرار على الثأر له ولكل شهداء الوطن.
فتسلمت قيادة المجموعة وأكملنا المهمة والحمد لله انتصرنا، فالعاشر من رمضان كانت ملحمة رائعة بكل ما تحمل الكلمة من معان.
وأتمنى من الشباب أن يتخذوا من أجدادهم وآبائهم أبطال أكتوبر القدوة فى الإخلاص فى العمل، وحب الوطن.
شهداء عند ربهم
بالرغم من مرور كل هذه السنوات لم يستطع اللواء مختار قنديل-أحد أبطال أكتوبر أن يمحى من ذاكرته مشهد زملائه الشهداء الأبطال الذين استشهدوا، وهم صائمون.
- يروى لنا اللواء أ.ح مختار قنديل ذكرياته عن العاشر من رمضان فيقول: عندما أجلس بمفردى أول شىء أتذكره عن أكتوبر هو زملائى الشهداء، فكان هناك صديق اسمه المقدم فتحى الصواف عمل كقائد كتيبة كبارى فى القنطرة، بنى أحد الكبارى وجاءت دبابة إسرائيلية شرق القنطرة ودمرته، فاستشهد هذا الصديق وهو صائم.
أيضا لا أنسى عندما ذهبت إلى اللواء الثالث رأيت اللواء شفيق سدراك يستشهد فى دبابته واقفا كالأسد، ليضرب لنا مثالا للبطل.
ولا أنسى أيضا عندما أسرنا عددًا من الإسرائيليين، وعندما لم يتمكنوا من أسر جنودنا بالمثل أخذوا مدنيين من منطقة القناة لكن تم تحريرهم بعد ذلك.
ويتذكر اللواء قنديل يوم النصر:يوم الثامن من رمضان كنا نتدرب على مشروع قتال، لكننا لم نكن نعلم أن العبور بعد يومين، حتى جاء العاشر من رمضان وعلمنا أن ساعة الصفر ستكون فى الثانية ظهرا، ورأينا الطائرات تحلق من فوقنا، لدرجة أن إسرائيل نفسها لم تصدق أننا سنحارب ونحن صائمون.
وكنت وقتها فى مركز القيادة تحت الأرض نصوم وعند آذان المغرب نفطر على بلح وماء، لمدة أسبوع كامل رغم وجود الأكل لكن لم نكن نركز فى مسألة الأكل وكان كل تركيزنا فى الحرب. آسر عساف ياجورى
لم يدر اللواء يسرى عمارة أنه سيحفر اسمه بحروف من ذهب فى ملحمة العاشر من رمضان، ويطلق عليه آسر عساف ياجورى..ذلك الضابط الكبير، قائد اللواء 190 مدرع الذى بكت جولدمائير عندما بلغها خبر أسره، وأصبح أشهر أسير إسرائيلى.
بفخر شديد حكى لى اللواء يسرى عمارة عن ذكريات الصوم والعبور، قائلا:المصرى جبار، عندما يكون له ثأر لا يتركه أبدًا.
لم نكن نعلم بموعد الحرب إلا يوم العاشر من رمضان صباحا، حينما اجتمع بنا العقيد محمود جلال الدين مروان الساعة العاشرة والنصف، وقال لنا سنعبر اليوم الساعة الثانية ظهرا، ووزع علينا المهام وكنت نقيبا بسلاح المدفعية آنذاك.
وكانت لحظة العبورعظيمة بحق، فلم اتمالك نفسى وانا أرى الطائرات تعبر فوقى، ونحن نقوم بفرد الكوبرى ونسير بدبابتنا إلى الشط الثانى، ونسرع لرفع العلم المصرى الذى امتزج لونه الاحمر بلوم دماء الشهداء الطاهرة.
واستمررنا فى مواقع القتال حتى جاء يوم 8 أكتوبر، والذى لقبه الإسرائيليون (اليوم الأسود الحزين) لأنه أكثر يوما فقدوا فيه جنودا ودبابات؛ ووصلتنا معلومات أن إسرائيل ستقوم بعمل هجمة مضادة من الشرق إلى الغرب حتى تتقهقر قواتنا المصرية.
ففكر قادتنا أن نقوم بعمل كماشة، وندمر هذه الهجمة، وأثناء الليل ذهبت أنا و زملائى لتنفيذ المهمة، فتمت إصابتى لكنى أصررت على الاستمرار، واشتبكنا معهم فقتلنا اثنين وأسرنا الأربعة الباقين وكان من بينهم عساف ياجورى، أجبرته على الاستسلام وجردته من سلاحه وتعاملت معه بمنتهى الرأفة ووفقا لتعليمات القيادة المشددة التى تقتضى بحسن معاملة الأسرى، حتى قمت بتسليمه.
بزهو شديد أضاف اللواء عمارة: لم أكن أعلم أننى أسرت ياجورى إلا وأنا فى المستشفى أثناء علاجى، وهناك جاءت السيدة جيهان السادات وكرمتنى.
سألت اللواء يسرى عمارة: ألم تشعر بالخوف؟!، فأجابنى: نعم، فالخوف إحساس طبيعى، ولا يوجد إنسان على وجه الأرض لا يخاف، لكن شعورى بأن استرداد أرضى هو حقى جعلنى قويا لا أخاف أحدا.