نحن شعب دائما خارج التوقعات.. نحن شعب دائما يجىء بالمفاجآت ويحقق المعجزات.. نحن شعب لامثيل له على الأرض.. فنحن دائما خارقون فوق العادة.. نحن شعب مدهش.. أدهش العالم كله.. ولكن فى نفس الوقت الذى نثير فيه الدهشة.. نثير فيه الغرابة وعلامات الاستفهام.. نحن شعب دائما يفاجئ الجميع بمن فيهم أنفسنا. فلم يكن أحد يتوقع.. ولا على أسوأ الفروض أن تأتى نتيجة أول انتخابات مصرية لرئاسة الجمهورية بعد 52 يناير بهذا التناقض الصادم.. والمقلق والمثير للجدل والانقسام والتمزقات أيضا.. وكأنه كتب علينا هذا بعد ثورة يناير.. فقد أبت الانتخابات إلا أن تأتى بهذه النتيجة التى أكدت حالة الانقسام والتشرذم التى كانت عليها فئات الشعب بعد ثورة يناير.
بقدر السعادة والفرح بعرس الديمقراطية التى نمارسها بحق لأول مرة فى تاريخنا ونحن نتوجه إلى صناديق الانتخاب لنعطى صوتنا للمرشح الذى نختاره وبإرادة حرة ثورية وفى انتخابات نزيهة وبشفافية عالية.. بقدر ما كانت الصدمة القاسية بالنقيض التى قلبت الفرح والتفاؤل إلى حزن وتشاؤم.. بل حتى انقلبت حالة المشاركة الإيجابية الشديدة التى كنا نعيشها مع انتخابات الجولة الأولى إلى حزن وسلبية فى الجولة الثانية وهذا ما نخشاه حقيقة.
فالنتيجة التى آلت إليها انتخابات الجولة الأولى أدخلتنا نفقا مظلما وخيارين أحلاهما مر.. وشديد المرارة أيضا.. فقد وجدنا أنفسنا إما أن نختار مدنية الدولة حتى ولو كان الذى يمثلها الفريق أحمد شفيق الذى يؤكد أننا مازلنا أسرى حكم ثورة يوليو.. وتأكيد على أن يكون الرئيس القادم من المؤسسة العسكرية.. وأيضا لأنه يحسب على النظام السابق الذى أسقطته الثورة.. وإما أن نختار دينية الدولة التى يمثلها د.محمد مرسى رئيس حزب الحرية والعدالة الذراع السياسى لجماعة الإخوان المسلمين بكل ما تمثله مخاطر هذه الدولة التى ستعيدنا إلى الخلف.. ولن تعترف بالديمقراطية وبأنظمة الحكم الحديثة.. وتحولنا إن آجلا أو عاجلا إلى نظام البيعة والخلافة وستكون هذه الانتخابات هى آخر انتخابات فى تاريخنا وسيكون الدستور الذى انتظرته الثورة هو شرائع المرشد، إذ إنه سوف يكون بين أضلاع ثلاثة «المرشد - والرئيس - والبرلمان» وهم جميعا من فصيل واحد يصنعون دستورا للأمة على هواهم ولا يعكس أطياف الشعب المصرى الذى ناضل من أجل ثورته واسترداد حريته وكرامته.
لقد وجدنا أنفسنا أنه يجب علينا الاختيار ما بين مدنية الدولة.. بكل أخطائها وبين دينية الدولة بكل أوزارها.. وإما أن نعزف تماما عن الانحياز لأى طرف.. والاختيار ونعود مرة أخرى نركن إلى السلبية والعزوف السياسى وعدم المشاركة.. وكأنه لا ثورة قامت ولا إنجازات حقيقية تحققت.
والحقيقة أنه يجب علينا أن نقرأ ونحلل المشهد الانتخابى السابق لنفهم ما حدث ونقيمه.. ونحدد اختيارنا القادم بناء على أسس ونتائج استخلصناها من الجولة الأولى. أولا: كانت كل التوقعات قبل الانتخابات تشير إلى أن الصراع الحقيقى على الرئاسة كان بين الخمسة الكبار مرسى وموسى وأبوالفتوح وشفيق وحمدين صباحى.. وكانت التوقعات أنه حتما ستكون هناك جولة إعادة وكانت التوقعات المبدئية تشير إلى أن د.محمد مرسى سيكون أحد فرسان الرهان فى الإعادة بما للإخوان من كتلة تصويتية منظمة وعالية داخل الشارع.. وكانت التوقعات أيضا تشير إلى أن حمدين سيأتى ثالثا فى الترتيب إن لم يدخل إعادة.. لكن فى الوقت نفسه كانت المؤشرات تؤكد أن فرص عمرو موسى فى الإعادة أفضل من فرص شفيق.. وإن كانت المناظرة قد أثرت عليه بشدة هو ود.أبوالفتوح.. والأخير دخل فى معركة مع حمدين مع أنهما جناحا الثورة فى هذه الانتخابات.. ولكنهما أخذا من أصوات بعضهما.. كذلك وضح أن السلفيين انقسمت أصواتهم ما بين أبوالفتوح ومرسى.. وأن الإخوان خدعوا أبوالفتوح حيث تناثرت الشائعات لتؤكد أنهم «يدمون» أصواتهم على حمدين لتقليص فرص أبوالفتوح فى الفوز. والصدمة الحقيقية كانت فى تراجع موسى الشديد إلى المركز الخامس مع أن كل التوقعات كانت تشير إلى أنه سيكون ثانيا.. ولكن يبدو أن إمساك العصا من المنتصف أضره أكثر مما أفاده.. فى الوقت الذى صعد فيه شفيق صعود الصاروخ ليقترب من مرسى بشدة.. ويحل ثانيا مع مرسى فى الإعادة.
ثانيا: المفاجأة الثانية والحقيقية التى جاءت بها الانتخابات هى هذا التراجع الحاد للإخوان فى مرشحهم محمد مرسى حتى لو كان الأول فى الترتيب.. وهذا التراجع سببه الأداء السيئ للإخوان وحزبه الحرية والعدالة فى البرلمان.. وتراجع شعبيتهم داخل الشارع لأن الشارع لم يعد تنطلى عليه أكاذيبهم وخداعهم.. وقد كانت التوقعات تشير إلى أن محمد مرسى سيحصل على أكثر من ثمانية ملايين صوت على أساس أن متوسط عدد أعضاء الجماعة من 057 ألفا إلى 058 ألف عضو، وكل عضو سيأتى بعشرة أصوات انتخابية فكان المتوسط ثمانية ملايين صوت، بالإضافة إلى أن د. محمد مرسى كان سيحصد أصواتا أخرى من بعض الفئات الذين سينحازون للإسلاميين.. فكان المتوقع أن يحصل على الأقل 01 ملايين صوت.. وهى قريبة من النتيجة التى حصل عليها الإخوان فى انتخابات مجلس الشعب.. ولكن جاء عدد الأصوات التى حصل عليها الحرية والعدالة 7,5 مليون صوت، وهو رقم يؤكد تراجعا شديدا لهم، أدى إلى حدوث حالة من الذعر والخوف بين صفوفهم.. ودعوا إلى أكثر من تحالف مع المرشحين الخاسرين وتوحيد الصفوف تحت لوائهم.. فى مغازلة مكشوفة وصريحة منهم للمناضل حمدين صباحى والمجاهد عبدالمنعم أبوالفتوح والدبلوماسى المخضرم عمرو موسى وكلها مغازلات رفضها هؤلاء المرشحون لأن الخدعة لم تنطلِ عليهم.. وأنهم فى النهاية يطالبون بالديمقراطية لأنفسهم.. وينكرون على غيرهم هذه الديمقراطية. ثالثا: المفاجأة الأخرى وهى التى قلبت الأمور رأسا على عقب هى صعود الفريق شفيق إلى المركز الثانى وبفارق بسيط لا يذكر عن مرشح الإخوان ومن ورائه ب002 ألف صوت فقط.. ورغم الاتهام بأن فلول النظام والحزب الوطنى كانوا وراء صعود شفيق بهذا القدر إلا أن هذا غير صحيح.. فالحزب الوطنى أيام سيطرته وسطوته لم يحقق ستة ملايين صوت.. وأنه لو كان يملك هذا الرقم لما زور انتخابات 5002 ، 0102، قد يكون له دور فى جزء من الأصوات.. ولكن الجزء الغالب والأعم يأتى من رجل الشارع المهمش البسيط الأرزقى الذى يحلم بلقمة العيش وبالأمن والاستقرار.. وأن يجد عمله الذى يقتات منه ويربى أولاده ويحلم برئيس يستطيع أن ينهى حالة الفوضى واللا استقرار التى تسيطر الآن على الساحة.. ولذلك فلم يحسب أحد حساب هؤلاء البسطاء الذين يحلمون بأبسط أمور الحياة الكريمة وهى التى قامت من أجلها الثورة فعلا.. لكنها لم تحقق له أيا من هذا طوال ال 51 شهرا الماضية.
رابعا: إن حمدين صباحى كان فعلا الحصان الأسود لهذه الانتخابات وهو مفاجأة المفاجآت ورغم التوقعات أنه كان سيجىء ثالثاً إلا أنه فى نفس الوقت لم يكن أحد يتوقع حصوله على هذه الأصوات متقدما على أبوالفتوح وموسى ولو أتيح له بضعة أيام أخرى ربما لحقق المركز الأول ودخل الإعادة مستريحا.. وهو أكثر من استفاد من المناظرة التى أطاحت بموسى وأبوالفتوح وأدت إلى تراجعهما إلى المركزين الرابع والخامس.
وأخيرا.. فإن الشعب محتار، والناس متخبطون، تانى.. ننتخب مين؟! ونحن أيضا معهم، لكن علينا نحن أن ننحاز فعلا إلى مستقبل البلد والشكل الديمقراطى له لا أن ننحاز إلى تيار أو فصيل دينى أو سياسى، فالكفة الآن تقريبا متساوية مهما قيل عن إمكانية فوز تيار ما أو مرشح على مرشح آخر.. فالقول بأن أصوات حمدين وأبوالفتوح ستذهب لمحمد مرسى غير صحيح، كذلك القول بأن أصوات عمرو موسى ستذهب إلى شفيق غير صحيح أيضا.. الكل فى حالة حيرة.. الشىء المؤكد الواضح أن المرشحين وراءهما تكتلان واضحان مرسى وراءه الإخوان والسلفيون، وأحمد شفيق وراءه الحزب الوطنى والكتلة الصامتة وأصوات الأقباط والقول بأن الأقباط سيعطون المرشح الإسلامى غير صحيح وغير حقيقى.. واللعب بين القوتين أو الطرفين الآن سيكون على قوى الثورة والشباب بالدرجة الأولى فهم الفصيل الذى سيحقق الفوز لمرشح.. وهم سيكونون كلمة الفصل.. ولو عزف المصريون عن النزول إلى الانتخابات والتصويت فى الجولة فهذا خطر كبير.
نحن الآن أمام دولتين.. الدولة المدنية ويمثلها شفيق، وهناك ضمانات حقيقية لنا ألا يحيد شفيق عن مساره أو يحاول تكرار النظام السابق فهو بالطبع سيصطدم بقوى سياسية ثلاث على أرض الواقع.. الأولى البرلمان وهى السلطة التشريعية.. والقوى الثانية هى قوى الثورة والإخوان والسلفيين.. والقوى الثالثة هى القوى الليبرالية والأحزاب التقليدية.. أما إذا فاز مرشح الإخوان فلن تكون أمامه أى قوى معارضة لأنه سيملك الرئاسة والحكومة والبرلمان ولن تكون هناك قوى حقيقية فعلية فى الشارع إلا قوى الثورة أو ما تبقى منها.. والقوى الليبرالية والأحزاب التقليدية الضعيفة.. علينا أن نختار.. وأن نعى الاختيار ونحسنه.. وفى النهاية علينا احترام نتيجة الصندوق مهما كانت فهذه هى الديمقراطية الحقيقية حتى لو لم تعجبنا مما فيها.