أحاديث «هادئة» في مسائل المواطنة والمناخ الطائفي (1) يتحدث الكثيرون عن أنه لا ينبغي أن يكون نقاشنا الوطني الحالي عن (المواطنة) ومعالجة أمور (المناخ الطائفي) موسمياً.. ويخشي البعض من أن يكون الحديث الثائر يشبه (لبنا يغلي) إلي أن أصبح (فائرا).. فأطفأ النار التي تغليه.. لا نريد هذا.. إطفاء النار بالغليان يؤدي إلي تسرب غاز يخنق وقد يؤدي إلي انفجار لو اقترب منه أي (مصدر شرر).. وبالتأكيد لابد علي المجتمع أن يتحسب جداً من أن ما جري في الإسكندرية (لن يكون الإرهاب الأخير المستهدف لمصر).. قلت مراراً وأكرر: لا يمكن لمصر أن تحافظ علي صفة (واحة الاستقرار) في (إقليم النار) و(محيط الدمار) الذي تعيش بين مكوناته. لكن النقاش الذي لا يجب أن يهدأ، ولا يجب أن يخمد، باعتبار الخطر قريبا من رقابنا ويمثل تحدياً لمستقبلنا.. لا يجب أن يتحول إلي تخبط.. كما أنه لا يجب أن يكون (هوجة).. ولا ينبغي أن يتوقع أنه سوف يسفر عن نتيجة ملموسة خلال أيام.. إذا كانت مظاهر التطرف متعددة الأنواع ومكونات المناخ المضاد لقيم المواطنة قد تراكمت خلال أربعين سنة أو أكثر.. فإن هذا لا يمكن أن يتعدل بين يوم وليلة.. لا أربعين ساعة.. ولا أربعين يوماً.. ولا أربعين أسبوعاً.. وإن كان يمكن أن تتعدل الأمور في غضون أربعين شهراً.. تتعدل ولكنها لن تنتهي في هذا المدي الزمني. أربعون شهراً تعني أن نتخذ إجراءات قريبة.. تؤتي ثمارها الأولية فيما بين ثلاث وأربع سنوات.. وتحقق تعديلا جوهرياً شبه كامل في غضون عشر سنوات.. ونراكم في الجهود الثقافية والتعليمية والإعلامية والدينية والقانونية.. لكي نضمن أن يتخلص المجتمع من أمراضه الطارئة علي مساره.. حتي لو كانت تلك الأمراض قد عانينا منها طيلة أربعة عقود. لقد سمي بيان مجلس الشوري ملفات المواطنة والمناخ الطائفي ب(القضايا العالقة)، هي كذلك بالفعل.. (عالقة).. وعلينا أن ننهي تعليقها.. وأن نضعها فوراً علي المائدة.. و(موائد العقل) تختلف عن (ميادين الكرة).. الأخيرة يمكن أن تحرز فيها هدفاً لو أجريت تغييراً في فريق يلعب.. متبارٍ مكان آخر أو أكثر.. أو حتي غيرت في طريقة اللعب.. لكن هذا لا يمكن أن يضمن لك أن تفوز بالدوري.. خصوصاً إذا كان الفريق المنافس هو (مؤسسة التطرف) بكل تعقيداتها.. ورسوخها.. وظهيرها الإرهابي الدموي. (موائد العقل) تحتاج إلي تقليب متأنٍ.. نحن نعرف أبعاد المشكلة.. لكن علينا أن نقدر حلولها ونتائجها.. ومن ثم لابد أن يكتسب الحديث صفتين متزامنتين.. لا تنفعان إلا بثالثة.. الأولي هي (الهدوء والتروي).. والثانية هي (الاستمرارية).. والثالثة الأهم: هي (الإرادة).. وأعني بالإرادة ليس ما يخص الإدارة.. وإنما ما ينبع من المجتمع كله.. لأن الإدارة لا يمكن أن تقوي علي قيادة المجتمع إلي ما لا يتوافق مع أهدافه.. مع تأكيدي الواضح والمتكرر علي أنه ليس علي الحكم بمعناه الشامل، وبمعناه الخاص كحكومة أن ينتظر الرغبات الآتية من أسفل.. في مثل هذه المسائل الخطيرة.. وأن عليه أن يأخذ زمام المبادرة.. وهو ما نتوقعه منه. عموماً هذا أمر محسوم.. (إرادة المجتمع) اتضحت بالفعل يومي الأربعاء والخميس الماضيين في مظاهر مختلفة.. فرضت نفسها حتي علي تحليلات متابعين خارجين اندهشوا لأنهم وجدوا مصر كلها (واحدة) في مواجهة الإرهاب.. كلها (واحدة) تحتفل بعيد الميلاد المجيد.. وأعتقد جازما أن هذا هو الذي جعل الإرهاب يخشي أن يكرر فعلته في وقت قريب.. لأنه انصدم برد فعل عموم المصريين.. ومع كامل احترامنا وتقديرنا لجهود أجهزة الأمن التي يجب أن تحظي بكل الواجب من المساندة.. فإن المصريين كلهم قد دعموا أجهزة الأمن بهذه الصورة الجماعية التي أدت إلي حماية ليس للكنائس والمساجد وإنما إلي مكونات مصر وثقافتها ومعناها. علي موائد العقل، يجب أن نضع مظاهر يومي الأربعاء والخميس المجيدين ودلالتها: مع كل الاحترام، والتقدير أيضا، للإسهامات السياسية والدينية، التي أدت إلي تبلور الشعور المصري العام الذي انعكس مظاهر فريدة.. فإن ما جري كان نتاجا لوعي جماعي.. وإحساس عام.. تخطي كل محرك.. وذهب إلي أبعد منه.. لقد كان كل ما نرجوه هو ألا يقع صدام بين المسلمين والأقباط.. لكن عبقرية مصر وشعبها قفزت إلي ما هو أبعد.. وعبرت إلي ما فوق الصدام - الذي لم يحدث - نحو التضامن الكامل ورص الصفوف وإعلان هذا دون قنوت.. بمعني واضح: هذا لم يكن نتيجة لإعلام فعال أو صحافة قومية متيقظة.. مع إشادتي بكل الجهود التي بذلت.. لكن خطتنا الأولية كل فيما يخصه كانت هي ألا يقع الصدام وليس بلوغ هذا السقف العظيم المتحقق. إن المكون الأساسي لهذه المظاهر الوحدوية العامة كان يعود إلي أجيال الشباب.. خصوصاً الشباب المسلم.. هؤلاء هم الذين تحركوا نحو الكنائس ووظفوا الشبكات الاجتماعية الإلكترونية في توجيه رسالة واحدة ورفعوا أيقونة الهلال يعانق الصليب.. وإذا كنا قد توترنا للغاية مما ألم ببعض الشباب القبطي الجامح.. فإن الرسالة التالية جاءت من عموم شباب مصر لتؤكد أن فيه خيرا ولنا في جوهره ذخراً.. وهذه حقيقة لابد أن نبني عليها ولا نهدر قيمتها ومضمونها. إن تلك المظاهر تجلت بوضوح في داخل دور العبادة المسيحية.. فالشباب والعائلات ذهبت لمشاركة الأقباط في أعيادهم داخل الكنائس وقد وقف المتحدثون المسلمون ليلقوا الكلمات فوق منابر المسيحيين في يوم عيدهم.. ما يعني أنه لا يوجد موقف مسلم مضاد وسلبي تجاه دور العبادة المسيحية.. وأن قشور التطرف رغم سمكها يمكن إزالتها بمذيبات الثقافة.. وأن أغطية الفتنة رغم ثقلها يمكن نزعها بأيدي الرسالة الإعلامية الصائبة والفاهمة.. وأن هذا كله يخلق بيئة جيدة لقرارات تخص بناء دور العبادة.. بيئة لابد من دراستها ومعرفة مفرداتها.. وهي مسألة سوف أتطرق لها غداً. بقي في هذا التقديم لهذه السلسلة من المقالات التي أجرؤ وأتطوع بوصفها (متأنية)، أن أشيد بمواقف أدت إلي صنع الحالة التي سوف نبني عليها: أولاً وبحس وطني رهيب ومسئولية قومية منتظرة موقف الرئيس مبارك بعد ساعات من وقوع الجريمة البشعة ثانياً موقف رموز المؤسسة الدينية المسلمة ممثلة في العلماء الأجلاء شيخ الأزهر ومفتي الديار ووزير الأوقاف ثالثاً موقف المؤسسات السياسية المنتمية للدولة سواء كانت قومية أو حزبية (مجلسي الشوري والشعب) وأحزاب (الوطني والوفد والتجمع والناصري) رابعاً موقف قداسة البابا شنودة في حديثه التليفزيوني المهم خامساً موقف الصحافة القومية بكل إصداراتها سادساً موقف المجتمع المدني ممثلا في الجامعات واحتشادها سابعاً موقف قطاعات من النخبة الموحية والواعية ثامناً موقف الإعلام التليفزيوني الحكومي خصوصاً في حدث يوم الخميس والبرنامج الجماعي لكل مذيعي مختلف المحطات الخاصة والحكومية. ولا يتضمن هذا بالطبع الإجراءات التي قامت بها السلطات المختلفة في التعامل مع الأزمة وإدارتها.. ولكل منها دوره علي مستوي: وزارة الداخلية في الأمن، والنيابة العامة في الإدارة القانونية للموقف، ومحافظة الإسكندرية في التعامل التنفيذي، ووزارة الصحة في نطاقها، ووزارة الخارجية دبلوماسياً.. وغير ذلك. ونكمل غداً. www.abkamal.net [email protected] اقرأ للكاتب فى نفس الملف : # العمرانيه والاسكندريه # المذنبون والمظلومون # ساعة (النظام)التى حانت # بلد (كاميليا) # البقيه التى لن تاتى ابدا