في معرض الحديث عن واحدة من أهم وأخطر قضايا التقدم والتنمية في مجتمعنا، وهي قضية التعليم، تتراكم الموضوعات، وتتداخل العوامل، ويصبح من الضروري تفكيك القضية إلي محاور فرعية، يجري التصدي لكل منها تباعا. في المقالات الثلاث السابقة تصديت إلي ثلاثة من الموضوعات الأساسية في معركة تطوير التعليم تتعلق بضرورة زيادة مخصصات التعليم في الموازنة العامة للدولة وماهية المخرج النهائي المرجو من العملية التعليمية، الذي من أجله ترصد الميزانيات وتجتذب الاستثمارات ثم أخيرا الكيفية التي تتم بها العملية التعليمية باعتبار أن المدرسة ليست مؤسسة تعليمية فقط بل هي في المقام الأول موسسة تنشئة اجتماعية وسياسية تشكل حجر زاوية في بناء أجيال تضطلع بالمسئولية في هذا الوطن، فهي المؤسسة التي تسهم إسهاما كبيرا ومباشرا في تشكيل وبناء شخصياتهم. المحور الرابع -موضوع حديثنا اليوم- في عملية إصلاح التعليم هو علاقة التعليم بالمجتمع بكل قضاياه وهمومه، تاريخه، وحاضره ومستقبله. يقول آخر ما العلاقة بين التعليم أو العملية التعليمية بطبيعة المستقبل الذي سيجد الدارسون أنفسهم في المواجهة معه عند انتهاء مرحلة التعليم النظامي. التعليم غير منفصل عن المجتمع. وأعني بذلك أن التعليم يجب أن يدرب الدارسين علي تحديد مشكلات المجتمع، والتفكير نقديا بشأن كل ما يحيط بهم من مشكلات، وأخيرا إفساح المجال أمامهم للتفكير في الحلول الخلاقة للخروج من آسرها. فهل يضع المخططون للعملية التعليمية برمتها -ومن بينها المناهج الدراسية- في الاعتبار الحالة الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والفكرية السائدة في المجتمع حاضرا والمتغيرات المتوقع أن تطرأ عليه مستقبلا؟ هل يقومون بالقراءة الصحيحة للحاضر والاستقراء الجاد للمستقبل بما في ذلك دراسة سوق العمل الذي ينتظر الدارس، وينتظره الدارس بالطبع بعد سنوات التعليم الطويلة؟ احتياجات سوق العمل في حالة تغير مستمر، فهل يمكن أن يلعب التعليم دورا في إعداد المواطن علي نحو يسمح له بالانخراط في سوق العمل دون أن تكون سنوات دراسته الممتدة عنصرًا حاسمًا في تقرير نوعية الوظيفة التي يحصل عليها؟ في تقديري يعد الربط الفاعل والمستمر والمتجدد بين العملية التعليمية من ناحية والمجتمع بكل ما يحيويه من قضايا ومؤسسات وسياسات من ناحية أخري من أهم الأركان السياسية في نجاح العملية التعليمية وتحقيق النتائج والعائد المطلوب منها، ومن ثم يبرر الاستثمار المتواصل والمتراكم فيها. الدارسون من المجتمع ويعيشون بالمجتمع وإلي المجتمع يوجهون أمانيهم وطاقاتهم، فإذا حالت العملية التعليمية دون اندماجهم في المجتمع بكل حركاته ومتغيراته وتطوره، فلن يجد هؤلاء مكانهم ولا مكانتهم في المجتمع سواء من ناحية قدرتهم علي المشاركة الفاعلة في سوق العمل المتغير أو علي صعيد التفاعل الثقافي والاجتماعي والسياسي مع هذا المجتمع. الربط بين العملية التعليمية والمجتمع يجري عبر عدد من الوسائل من بينها: أن تعكس المناهج الدراسية -بواقعية وشفافية وصدق- التاريخ والحاضر والمستقبل، وأن تُكسب الدارسين قدرات تحليلية لقراءة الواقع واستقراء المستقبل، وفهم وإدراك حركة وتطور المجتمع الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والفكرية، وسبل التفاعل معها. ما معني أن يتخرج دارس من التعليم دون أن تكون لديه القدرة علي فهم الواقع، وتحليل مختلف أبعاده، ورصد المتغيرات المحيطة به؟ وما مغزي أن تجري دراسة مواد ومقررات منبتة الصلة عن المجتمع، والتفاعلات التي تعتمل في باطنه؟ في جنوب أفريقيا شكل الانتقال من نظام الفصل العنصري إلي الديمقراطية مناسبة مهمة لإعادة النظر في مقررات التعليم، والتأكيد علي أنه يلعب دورا رئيسيا في إعادة تشكيل ذهنية المواطن للتفاعل مع واقع جديد، لم يعد ينطوي علي مثالب واقع سياسي ولي وتلاشي.. وكان السؤال المحوري هو كيف يمكن أن يكون التعليم بوابة الولوج إلي واقع ديمقراطية بعد أن ظل لعقود أداة لتكريس النظام العنصري؟ الحاجة ملحة أيضا لتهيئة المجتمع بكل مؤسساته السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والأهلية لإفساح المجال للتفاعل الجاد مع الدارسين كجزء من العملية التعليمية الممنهجة، ذلك من خلال برامج ومشروعات ومبادرات منظمة بين الدارسين والمدرسة.. إن الاحتكاك والانخراط والتفاعل المبكر والمستمر بين الدارس والمدرسة من ناحية والمجتمع من ناحية أخري هو مجال رئيسي في بناء جيل أو أجيال لديها القدرة علي حمل المسئولية، ولديها القدرة -كذلك- علي تبوؤ الوظائف القيادية والمبادرة بالدخول في سوق العمل والتفاعل معه. وهكذا فإن أهمية الربط بين التعليم وقضايا المجتمع الأساسية تفرض إعادة النظر والتفكير والتخطيط الجيد في المناهج الدراسية وأساليب التدريس، وفي العلاقة بين المدرسة ومؤسسات المجتمع، فليس الفصل الدراسي وحده هو مركز العملية التعليمية، بل ربما تتم علمية التعلم خارج الفصل الدراسي، وذلك من خلال التطبيق العملي والجماعي للدارسين لما تعلموه في إطار ما يشمله المجتمع من مؤسسات اجتماعية واقتصادية وسياسية.