عنوان آخر كتاب لعبد السلام بنعبد العالي أستاذ الفلسفة المغربي الأشهر في العالم العربي.. يحتفي بالعلاقة بين الفلسفة والحياة، يخرجها من الإطار الأكاديمي إلي إطار البحث، من سجن الكتب إلي رحابة التفكير، بعيدا عن المؤسسة سواء كانت دولة أو جامعة أو تاريخا. يقول عبد السلام بنعبد العالي: "لن يتعلق الأمر والحالة هذه بإنقاذ غريق ولا بإحياء صورة ماضية وبعث لأجداد واستنجاد ب"وجوه مشرقة"، وإنما بخروج وانفلات. وحتي إن اقتضي الأمر محاورة الكتاب الذين قد ينتمون إلي تاريخ الفلسفة فبالضبط من حيث ينفلتون من أحد جوانبه، وذلك ليس بحثا عن نماذج فكرية جديدة، وإنما "سعيا وراء ضبط الفكر أثناء عمله كفكر" بهدف إقامة صيرورات مبعثرة لا متناهية تعمل فيما وراء ما يقدم نفسه تراثا فلسفيا وذلك ل"الخروج" عن منطقه وقلب بنيته." الكتاب كما يبدو من فقراته المنفصلة المتصلة، والتي لا يشير فيها الكاتب لمصادره بالشكل الأكاديمي المتعارف عليه متسقا بذلك مع المقدمة الفائتة التي يتمرد فيها علي بنية الفكر المتمأسس بكسر السين الأولي، هو تجميع لشذرات وأفكار وتجليات ومحاورات للكاتب مع عدد من أهم الفلاسفة والمفكرين الفرنسيين والغربيين المحدثين علي رأسهم جيل دولوز ومن قبله نيتشه ومن بعدهما بودريار وجي دوبور. فكرة الخروج والانفلات من الأفكار الأثيرة لدي دولوز، وهي الفكرة التي تجعل هذا الكتاب، امتداح اللافلسفة، كتابا مفتوحا علي جميع احتمالات القراءة، متعة للقارئ المتخصص وغير المتخصص، نزهة عطرة في ربوع الفكر الخلاق بعد أن تخلص من شوائب البنية الأكاديمية وراح يجول في متاهات الأفكار وتداعياتها الثرية. يشير بنعبدالعالي إلي "ثقافة التوليف" بنفس المنطق الحياتي الذي يفرض نفسه علي المفكر أو الذي يفرضه المفكر علي الحياة من أجل أن يتحقق له نوع من "طيب العيش" أو الهناء، لا استنادا لمعايير فوقية ولكن وفقا لما يتوفر لديه من وسائل مادية وعقلية لتحقيق ذلك الهناء. وكأن الكاتب ينفي ما جاءت بها أفكار الحداثة الأوروبية من طموحات ومشاريع وآفاق من شأنها أن تعلو بالإنسان لما فوق (الواقع) فيعيدها إلي أرض "الآن وهنا"، إلي "تحت" حيث يعتبر البريكولاج (ويمكن ترجمتها بالتوليف) هو السبيل الوحيد لتحدي الأبدية. ولأن الكاتب يأخذنا في نزهة خلابة من واحة إلي أخري متنقلا بيسر وكثافة في صحراء الفكر المفتوحة علي شساعتها، فإننا كثيرا ما نلتقي في كتابه، وفي أعمال أخري له كما نري في كتاب "الكتابة بيدين" الصادر عن دار توبقال عام 2009، بمفكرين ومنظرين تتنوع اهتماماتهم من الأنثروبولوجيا إلي الفلسفة، ومن علوم اللغة إلي نظرية الأدب، منهم كلود ليفي ستروس وجي دوبور ورولان بارت وعبد الله العروي وعبد الفتاح كيليطو وموريس بلانشو وحنه أرنت وجيل دولوز وغيرهم. يخلق علائق مهمة بين العام والخاص ويستخدم أدواته ليفاجئنا كقراء بأفكار تستبعد التفاسير الأخلاقية وتنبني علي مبدأ المحايثة تارة وعلي حرية المشاءين المطلقة تارة أخري. في نص "الإنسان المقاولة" ينسج علي منوال دولوز تصور عن رجل السياسة والنجم السينمائي (وقد تبدو هذه المقاربة مفهومة بمنطق بودريار أيضا ومقولته الشهيرة عن واقع بلا أصل) فيقول: "ما يفعله السياسي أو النجم الذي يوكل أموره إلي من يتدبرونها، هو أنه يحول حياته إلي مقاولة، أو قل علي الأصح إنه يتحول هو نفسه إلي مقاولة، فينتظر ممن يسهرون علي تسييرها ويدبرون شئونها بلوغ أجود ما يمكن في "صناعة الذات".... إنه ينتظر منهم أن يحولوه إلي أحسن منتوج." ويشير في فقرة أخري من فقرات الكتاب إلي فكر الأزمة والمفهوم القيامي المصاحب له مذكرا بأن الرأسمالية الحديثة إنما قامت وترعرعت واستمرت نتيجة لاعتبار الأزمة جزءا من نسيج التاريخ وليس باعتبارها نهاية أخلاقية. لقد لفت نظري للكتاب بالإضافة للعنوان، ما جاء في فاتحة الكتاب من تظهير للفيلسوف الفرنسي جان بوديار حيث يقول: "إننا لم نعد أمام تاريخ يندلع ويتعاقب. فاندلاع التاريخ لا يعنيني بقدر ما يهمني ما يحدث تصدعا وشرخا في لحظة ما". كتاب عبدالله بنعبدالعالي يتنقل بحرية بين لحظات مهمة في تاريخ الفكر، ويتوقف عند عدد من المفاهيم والأدوات المعرفية التي أحدثت تصدعا أو شرخا في الفكر المعاصر بحيث لم يعد من الممكن تجاوزها أو التفكير من خارجها. وهو يفعل ذلك كمحاولة "لجعل الدرس يمتد"، لتأسيس مبدأ الحوار والتحاورية وتعدد الأصوات وانفتاحها علي خطوط انفلات لا نهاية لها. يعود لمناقشة مفهوم الفرجة، ومبدأ الحكامة، وتعدد الأصول، والترحل، والتحديث، ويقاوم الميتافيزيقا بنظرة مناوشة من قلب الشك والارتياب الذي يقض مضجع كل فيلسوف علي عكس ما يحدث مع "موظفي الفكر" الراكنين إلي سكون النظريات وبلادتها. وقد لفت نظري أيضا ما ورد علي ظهر الغلاف وهو ترجمة لجزء من حوار مع رولان بارت عام 1969 عن جدوي الكتابة. تلك "العتبات" المهمة لكل كتاب تماما مثل عنوانه، تفتح النص الذي يبدو مغلقا منتهيا علي آفاق أخري وتكشف عن بعض أهم الأفكار الواردة في أي كتاب. فما جدوي الكتابة، يتساءل بنعبدالعالي وأتساءل معه كما يفعل كل كاتب يهتم بأسئلة الوجود المحايث. يبحث عن إجابة في حوار رولان بارت فأجد بعض تلك الإجابة وكأننا كتبناها معا: "أكتب إشباعا للذة.... أكتب لأن الكتابة تخلخل الكلام... أكتب كي أحقق موهبة وأنجز عملا مميزا... أكتب كي يعترف بي... أكتب كي أنجز مهام أيديولوجية أو ضد الأيديولوجيا... أكتب بإيعاز أيديولوجيا مستترة... أكتب إرضاء لأصدقاء ونكاية بأعداء... أكتب مساهمة في إحداث شروخ في المنظومة الرمزية لمجتمعنا... أكتب إبداعا لمعان جديدة... وأخيرا أكتب إثباتا للقيمة العليا لفعالية تعددية لا دوافع وراءها، ولا أهداف ترمي إليها، ولا تعميم تستهدفه، شأنها في ذلك شأن النص ذاته."