قالت لي هاجر، ابتعد، أغرب، قلت لها أعرف أني لن أفلح، وأعرف أن شعورك لم يبتل من يمي بعد، وأعرف أنك لم تنتبهي لاسمي في قيد الأحياء، فقد افتتحت حياتي يوم رأيتك أول مرة، فقبل حياتي بموت أو موتين أو أكثر، وعلي مرمي قبر أو قبرين، نظرت لنفسي، أتأملها، تعيسة؟، سعيدة؟، ربما، لا أدري، كانت نفسي قبلك شبحا لا تعنيني، كانت دنياي قبل شروقك باهتة، لا طعم، لا لون، لا رائحة، كانت مثيرة لسخريتي، مثيرة لضحكي الأصفر، مخيفة، سخيفة، معتمة، كثيرا ما كنت أحدق في الظل، وكأني أبحث عنكِ. وأعود لنفسي لتطاردني الدنيا، فأركض حتي أتعثر في كلماتي، في أنفاسي، أتعثر حتي في صمتي وسكوني، فتارة تدركني، وتارة أدركها، وتارة أركض معها خلفي، وحين تُمْسِك بي تراني خُيوطَ غبار في شعاع الشمس. عجبت كثيرا من نفسي، يوم أبرق وجهك في عيني أول مرة، حين ألمَّ بقلبي مخاض الحب، أرغمتني نفسي أن أتخفي خلف ستار الخوف، أمرتني بالإجهاض، أو وأد الحب، وقالت لي: لن تفلح. لكنكِ كنتِ الأقوي، بسحرك، بصبحك، بصمتك، بدفئك، بموسيقي ضحكاتك التي بعثرت كلي في أجزائي، كنتِ الأقوي حين أطلَّت من عينيك نظرة، مرهفة، مندفعة كالسهم نحو ضلوعي، كنتِ الأقوي يوم سَكَبَت لي شفتاك إبريقا من عطر بثته بسمة دافئة. وصَدَقَتْ رؤيا نفسي، فسرعان ما همس الناعي في أذني، هذه ليست لك، كأني لم أسمع شيئا، كررها، هذه ليست لك، كأني لم أبصر شيئا، كررها، هذه ليست لك، كأني لم أحيا بعد، فجلست وبكيت، ورحت أمسح من عيني الحزن، وأوراق الأمل بللها الدمع، وتدثرت بأوجاعي، فغفوت، فرأيتك حلما يتبخر، وحبا في دمعي يترقرق، حاولت أن أُبقي علي دفء ما بيني وبينك، حاولت أن أغتسل بشيء من فجرك، من بدرك، من دفئك، من لحظك، من وقتك، لكن سحابك لا يمطر في أرضي، أيقنت أني آخر الماثلين بين يديك، وأهون الناظرين إليك، وأيأس الواقفين ببابك، وغريب مهاجر بين الملازمين لأعتابك، ولن يكفي نسكي في محرابك. فأجبرني حبك أن أحني رأسي، أن أسند ظهري إلي جذع الشجرة، وأبكي حين يمر بي طيفك، أجبرني حبك أن أهزي باسمك طول الوقت كالمحموم، بل كالعصفور يعزف لحنا، ويغني لحنا، ويبكي لحنا، لا يتغير، أجبرني حبك أن أتصبب عرقا، أن أنزف خجلا، أن ينعقد لساني حين تمري أمامي، أجبرني حبك أن أعمل بستانيا، أقتص آثار قدميك، فأجمع منها أزهار الأمل وورود الغد، أجبرني نورك أن أنعي للدنيا الشمس، وأنعي لها القمر، وأنعي للكون كل الضوء، أجبرني حبك أن أكلم ذاتي، أحدث مرآتي، أبث شكواي لأوراقي، أجبرني حبك أن أترنح كالمجنون يوم تصدقتِ ببسمة علي جائع مثلي. أجبرني حبك أن أطرح آلاف الأسئلة، هل يعني حبي لها شيئا؟ هل تعني آلامي لها شيئا؟ هل تسترحمك آهاتي؟ هل يعني لك شيئا أني أصبحت أسيراً موثوقاً في قيدك؟ إني أسكن طيفك؟ إني ألعق ظلك؟ إن قلتِ لا يعنيني، أعدك أن أتربص بالحب، أن ألقي القبض عليه، أن أحاول صلبه، أن أكشف زيفه، أن أُشَهِّرَ به، أو أختبئ في كهف الليل بين غابات الشعر كي أفتك به، وأعِدُكْ أني لن أُفْلِح.