صراعات الحكم وارتباكات المؤسسات في حين اكتسي ملف إيران بحالة من الهدوء النوعي علي المستوي الدولي، فإن إيران نفسها فجرت من داخلها مجموعة من دلائل الارتباك الشديد، ما يعني أنها قيد مشكلات كبيرة جداً.. ستكون لها نتائج مختلفة. أهم معالم الارتباك كانت هي إقالة الرئيس أحمدي نجاد لوزير الخارجية منوشهر متقي، فجأة، وبطريقة دراماتيكية مذهلة، تمت خلال قيام متقي بزيارة إلي بعض الدول الإفريقية، ما يشير إلي أن الأزمة لم تحتمل حتي انتظار الوزير إلي أن يعود.. ما جعل الإقالة لا يقتصر معناها علي أنها إخراج لمسئول من مهماته وإنما عبرت عن تخبط وصراع شديد.. فالدول التي كانت ستقابل متقي لن تلومه وإنما سوف تلوم بلده الذي أطاح به وهو يزور بلدانا، لإيران معها مصالح. بخلاف التعقيدات الشخصية بين متقي ونجاد، لا يوجد تفسير واضح يبرر هذا الموقف غير المعتاد في تقاليد الدبلوماسية الدولية، ولكن صورته العامة، والتعليقات التي صدرت لإدانة هذا التصرف من أحمدي نجاد من داخل إيران إنما تعبر عن أزمة داخلية.. خاصة أنه لا يمكن لنجاد أن يتخذ قراراً مماثلاً إلا بموافقة آية الله خامنئي الحاكم الفعلي لإيران والمسمي بمرشد الثورة.. وهو ما قد يستنبط منه انحياز خامنئي لفريق علي حساب فريق.. أو سكوته عن تجرؤات فريق علي حساب الثاني.. وما يوحي إجمالاً بأن هناك إعادة توزيع أوراق وترتيب تحالفات نقلت متقي الذي كان قد أتي به نجاد إلي معسكر آخر.. بحيث وجد أن عليه أن يطيح به فوراً وبلا أي انتظار لأي نوع من إجراءات الإخراج الشكلية للقرار. الملاحظة الأهم هنا، والتي تتجاوز موقف إقالة متقي، وهو ليس المسئول الوحيد عن السياسة الخارجية، في بلد بتعقيد إيران، هو أن السياسة الخارجية الإيرانية تتجه من فشل إلي آخر، وأزمتها مع دول غرب إفريقيا.. وموضوع تهريب السلاح.. وتكرار قطع العلاقات الدبلوماسية من عدد من الدول مع إيران.. والفشل الذي تعانيه تلك السياسة في الأممالمتحدة.. والسقوط في أكثر من ترشيح.. والهزيمة في مجموعة من المعارك الدبلوماسية بما فيها صدور قرار العقوبات ضد إيران.. كل هذا يعني أن هناك أزمة كبري وأن سياسة إيران الخارجية لا تلاحق طموحات الدولة.. بغض النظر عن شرعية تلك الطموحات من عدمه. بخلاف الاختلافات الداخلية، وصراعات المؤسسات، واحتدام التعقيدات بين المسئولين المتنوعين عن سياسات إيران، فإن السياسة الخارجية لبلد من هذا النوع تنطوي علي مقومات فشل بنيوية.. لا تؤدي إلا لمثل هذه الارتباكات المتوالية ومحصلات لا تُخدم علي المصالح العامة للبلد ولا تؤدي إلي تحقيق فائدة لشعبه.. ومن هذه المقومات: • الفتح الاستراتيجي للحركة الدولية والإقليمية بما يناقض حجم القوة ولا يتناسب معها.. بمعني أن إيران تتصرف كدولة عظمي علي الساحة الدولية في حين أنها ليست كذلك.. وهو ما يؤدي إلي: أولاً- إنفاق مهول لا يتناسب مع مستوي العائد منه، وثانياً - الاصطدام بقدر كبير من المصالح الدولية المتشابكة التي لكل منها معادلاتها وتوازناتها.. ولكل مصلحة من سيدافع عنها.. ولكل معادلة من يريد الحفاظ علي ثباتها. • من جانب آخر فإن السياسة الخارجية لإيران تفشل لأنها تقوم علي أمرين.. مرتبطين بالنقطة الأولي.. الأول - هو أنها (أيديولوجية) تستند إلي الشعارات قبل المصالح.. والثاني- هو أنها تخضع لممارسات غير المحترفين وتغرق في تداخلات المؤسسات المتنوعة، وفيها الديني والسياسي. • افتقاد السياسة الخارجية الإيرانية التحصينات القانونية بحيث يمكنها أن تواجه الحد الأدني من التحركات الدولية المضادة. • حالة الارتباك الداخلي والصراعات التي تجعل الدبلوماسية مفتقدة ظهيراً وطنياً متماسكاً، وفي ذات الوقت انغماسها في الصراعات التي تجري بين الأطراف والمؤسسات.. ما يجعل توجهاتها متضاربة.. وعلي سبيل المثال فإن الصراع بين متقي ونجاد لم يبلغ مرحلته تلك إلا بعد مناوشات وفصول مختلفة.. وقد سرب من قبل متقي أنه سوف يستقيل.. وتأجل ذلك بالتزامن مع تعقيدات أخري حتي لا تسقط حكومة نجاد.. وخرج الخلاف بينهما إلي العلن.. وحاصر نجاد وزير خارجيته بعدد من المبعوثين الرئاسيين الذين ينتمون إلي أهل الثقة لا الخبرة.. وصولاً إلي أن أقاله علنا بهذه الطريقة المهينة المعبرة عن مشكلات شخصية أكثر من تعبيرها عن مشكلات موضوعية. إيران بهذه الطريقة تأكل نفسها، غير أنها من جانب آخر تواجه حالة هدوء دولي.. بعد تسخين متواصل طيلة عامي 2009و2010 ما دفع البعض إلي توقع أن ملف إيران النووي يتجه إلي الحسم في عام 2011 .. لكن متغيراً جوهرياً أدي إلي هذه الحالة التي تعبر بشكل غير مباشر عن ارتباك آخر. فقبل أسابيع تعرضت إيران إلي هجمة إلكترونية فيروسية، مدبرة بالتأكيد من الغرب وتقوده الولاياتالمتحدة، ما أدي إلي مشكلة جوهرية في الشبكة العلمية والفنية للبرنامج النووي الإيراني.. لقد نبه الغرب حلفاءه إلي طبيعة الفيروس الإلكتروني الذي سوف يطلقه.. بحيث حصن الحلفاء أنفسهم ومفاعلاتهم مما سوف يجري في الأجواء.. فأصيبت إيران بتدمير نوعي غير منظور أدي إلي نتائج خطيرة في بنيان البرنامج. ويقول الخبراء: إن هذا قد سبب تعطيلاً حقيقيا للبرنامج النووي الإيراني.. وهو بدوره أدي إلي ارتباك داخلي.. تزامن مع عمليات اختطاف وقتل العلماء التي لا تتوقف منذ أكثر من عام وآخرها منذ أسبوعين.. فضلا عن اكتشاف أن القدرة الإيرانية علي التخصيب ليست تتحرك بنفس الوتيرة التي كانت تتحدث عنها الدعايات. وفي ذات الوقت، وعلي الرغم من أنه لا يمكن توقع أن تؤدي العقوبات الدولية المفروضة علي إيران إلي تغيير جوهري في سياساتها الخارجية، وإلي إنهاء برنامجها النووي، قياساً علي السوابق المختلفة دولياً، فإن العقوبات التي فُرضت في وقت سابق هذا العام لا شك أنها أحدثت ارتباكات اقتصادية، واضطرت إيران إلي تغيير في أساليبها ودفعتها إلي اتخاذ إجراءات عديدة لتخطي الحواجز والعراقيل التي وضعتها العقوبات.. وهي بدورها سببت أزمات داخلية. الذي يحدث الآن، نتيجة للتفاعلات الإيرانية الداخلية، والتفاعلات الدولية مع إيران، يظهر أننا بصدد مرحلة مختلفة.. أقل صخباً في اتجاه ملف إيران النووي، ولكنها لا تعني أن الترقب الدولي بشأن هذا الملف قد انتهي.. والمعني الأهم هنا هو أن دولة بهذا الطموح التوسعي والسعي إلي الهيمنة لا يمكن لها أن تصمد في صراع من هذا النوع الاستراتيجي المغامر.. دون أن تكون ضامنة لأوضاعها الداخلية ودون أن تكون محصنة بقدرة علمية فائقة وأكيدة لا تكون مغرقة في الدعاية الكاذبة.. ورحم الله دولاً تعرف قدر نفسها. www.abkamal.net [email protected] اقرأ شئون خارجية ص10