كان يمكن أن يكون فيلم «الشوق» الذي كتبه «سيد رجب» وأخرجه «خالد الحجر» أحد اللآلئ البراقة في عقد أفلام المهمشين، ولكنه وقع في فخ مزعج للغاية، إنه بامتياز النموذج الأمثل لما يمكن أن تطلق عليه «فيلم الجرعات الزائدة» في كل الاتجاهات تقريباً، ومن كل الأشكال والألوان. لكي تصنع وجبة طعام جيدة لابد من كمية مناسبة من الملح، وإلا أصبح الطعام غير قابل للأكل أصلاً، ولكي تمنع آلام المريض أثناء عملية جراحية يتم استخدام كمية محدودة ومضبوطة من المخدر، ولو زادت الجرعة سيدخل المريض قطعاً في غيبوبة قد لا يعود منها، في المثالين السابقين هناك مقادير محددة يمكن ضبطها (زي ما بيقول كتاب الطب أو كتاب طبخ) ولكن في الفن لا يوجد هذا الميزان الحساس إلا داخل الفنان، ولا يتكون هذا الميزان داخله إلا نتيجة تفاعل عاملي الخبرة والموهبة معاً بطريقة معقدة للغاية، وللأسف الشديد، لا نستطيع أن نقول إن هذا الميزان كان موجوداً عند صناع فيلم «الشوق»، صحيح أننا لا نستطيع أبداً تقديراً للمجهود الكبير الواضح، أن نقول إن الفيلم مات أو دخل في غيبوبة، ولكنك لا تستطيع أبداً أيضاً أن تقول إن الفيلم صحيح ومعافي وتتناسب قيمته الفنية مع الجهد الضخم المبذول فيه. الجرعات الزائدة ماذا تعني بالضبط عبارة «الجرعات الزائدة»؟ معناها أن تعتقد أن المبالغات في شتي الاتجاهات يمكن أن تخدم هدفك في صناعة فيلم يتعاطي مع هموم المهمشين وأشواقهم للحصول علي حياة تليق بآدمية الإنسان، هذه نوايا «سيد رجب» وهي نوايا حسنة ومشكورة، ولكن المشكلة أن النوايا وحدها لا تكفي لأن المقارنات لن تتوقف مع أفلام المهمشين المعروفة مثل «الساحر» و«عصافير النيل».. إلخ رغم الملاحظات علي هذين الفيلمين مثلاً، إلا أن هناك انضباطاً نسبياً في البناء وفي طريقة رسم الشخصيات، وفي اتساق تصرفاتها، بل إن هناك ظلالاً شاعرية تغلف السيناريو بأكمله بحيث تحب الشخصيات وتتفاعل معها، وتتفهم أشواقها للحياة الكريمة، ولكن الصورة مختلفة في فيلم «الشوق»، فكرة التشوق إلي تغيير الحياة الراهنة نفسها قد تكون واضحة عند بعض الشخصيات، ولكنها ليست كذلك عند شخصيات أخري، أي أن هناك شخصيات لديها فعلا هذا الشوق، وأخري تكتفي بالفاعل مع الحياة اليومية من أجل البقاء، موقف المؤلف أيضا من محاولات الانعتاق من الفقير غير واضح، هل هو مع فكرة الفرار من الحارة/ المستنقع القائمة في منطقة اللبان بالإسكندرية؟ أم أنه مع فكرة التحايل علي المعايش «لحد ما تفرج»؟ بل إن المؤلف نفسه لم يسأل نفسه كيف يمكن أن يكون الهروب من المكان مفتاحا في حد ذاته للتغيير؟ هذه الملاحظات في صميم الفيلم، وفي صميم مغزاه، وأتصور أنها أثرت علي الطريقة التي رسمت بها الشخصيات وخاصة الشخصيات المحورية «فاطمة» التي لعبتها باقتدار الكبيرة حقا باذخة الموهبة والحضور «سوسن بدر»، وبسبب التشوش انتهينا إلي حالة غريبة تجاه أبطال الفيلم الذين ما إن تتعاطف معهم حتي تزدريهم، وما إن تحتقرهم حتي تعود للتعاطف معهم؟! الهجرة إلي الخارج يبدأ الفيلم بتعليق صوتي عن البحر الذي يوحي بفكرة الهجرة، وعلي مشاهد من بحر الإسكندرية وشواطئها، نسمع مقارنة غريبة عن الطيور التي تهاجر ثم تعود، وعن الإنسان الذي يهاجر فلا يعود، مقدمة كهذه تعطيك انطباعا غير صحيح عن أن الفيلم موضوعه الهجرة إلي الخارج، ورغم قوة هذه المشاهد بصريا، إلا أنها ترتبط بخيوط واهية بالحكاية الأصلية الكائنة في أحد الشوارع الخلفية في منطقة اللبان حتي تستعرض الكاميرا بهدوء وبراعة وجوه ضحايا التهميش، ربما كان أفضل ما صنعته المقدمة فقط هذا الانتقال الحاد من البحر المفتوح إلي الزقاق الخانق بما يشبه وقع الصدمة. محور الدراما كلها، أو «وتد» الفيلم كله هو «فاطمة» البائسة (سوسن بدر) التي لا نعرف لها عملا محددا سوي قراءة الفنجان للجيران، مأساتها مزدوجة وقديمة أيضا، لقد هربت من أسرتها في طنطا منذ عشرين سنة لتتزوج صانع الأحذية الذي أحبته (يقوم بالدور باقتدار سيد رجب)، وأنجبت منه بنتين (علي وش جواز) هما: شوق (روبي) وعواطف (ميرهان) لن تعرف بالضبط لماذا لا تعمل الفتاتان مثلا، ولكن المأساة الأساسية التي تتفرع منها الدراما هي معاناة الطفل الصغير «سعد» -ابن فاطمة- من الفشل الكلوي، واضطرارها إلي احتراف الشحاذة في القاهرة؟! من أجل توفير المال لجلسات الغسيل الأسبوعية، ثم وفاة الابن، هناك أيضا حالة غريبة تنتاب «فاطمة» عند الغضب تجعلها تردد الشتائم بصوت أجش، ثم تضرب رأسها في الحائط بطريقة متكررة، في المفهوم الشعبي يقولون عادة إن هذه المرأة «ملبوسة» أو «مخاوية» لأحد الجان، ولكن الحالة يمكن تفسيرها علميا بأنها أعراض هيستيرية واضحة لمعاناة نفسية هائلة، الجسد هنا يعلن احتجاجه علي أنين الروح، علميا أيضا تمثل هذه النوبات الهيستيرية نوعا من الهروب والتنفيس عن الكبت، وقد بدت لي أيضا كما لو أنها نوع من التكفير عن شعور فاطمة بالذنب لهروبها من أسرتها، مجرد حيلة دفاعية يدافع بها الإنسان عن نفسه في مواجهة ظروفه. أفلام المهمشين «فاطمة» -إذن- هي الفيلم، ولكن أفلام المهمشين تكتسب قوتها أيضا من رسم ملامح عريضة لمجتمع مغلق مكبوت وعاجز، كالمعتاد ستجد نماذج كثيرة داخل هذا الزقاق تستكمل ملامح الصورة: «أبوسالم» (يوسف إسماعيل) الذي أصيب في الحرب، ولم يحصل إلا مؤخرا علي كشك أصروا علي أن يكون داخل الحارة/ المقبرة، وزوجته التي تعاني من عجز زوجها الجنسي بعد إصابته، وابنهما «سالم» (محمد رمضان) طالب الهندسة وحبيب «عواطف» الذي يتخلي عنها ويهرب من المكان والناس والفقر، و«رجاء» الزوجة الشابة التي تكره زوجها بائع الغاز لرائحته، وتقيم علاقة مع مراهق يافع، والخردواتي «إبراهيم» الأخرس الذي لم أفهم مشكلته بالضبط ولعب دوره «أحمد كمال»، وابنه «حسين» (أحمد عزمي) حبيب «شوق» الذي يتعرض للإهانة في الحارة فيتراجع عن فكرة الارتباط بها، كما يتعرض لمطالب «فاطمة» التعجيزية الباحثة عن زوج أفضل لابنتها، وهناك صعيدي يبيع الخضروات، ورجل كفيف.. و.. و.. و..إلخ. لديك شخصية ثرية هي «فاطمة»، ولديك مكان علي الهامش، ولديك نماذج متنوعة -رغم أنها مألوفة في أفلام المهمشين- يمكن أن تصنع عملا معقولا، ولكن طريقة الجرعات الزائدة ستجعل الفيلم يزحف ويعيد ويزيد ثم يبالغ ثم يترهل السرد ثم نسقط في بئر الميلودراما أحيانا وأخيرًا ننتهي إلي نهاية غريبة. الابتزاز العاطفي من أمثلة الجرعات الزائدة مثلاً التطويل في سرد أوجاع الطفل «سعد» وآلامه التي بدت أقرب إلي الابتزاز العاطفي للمتفرج، ومنها أيضًا التطويل والتكرار في مشاهد «فاطمة» وهي تشحذ في شوارع القاهرة، ومنها عدم التوازن بين مشاهد «فاطمة» ومشاهد الشخوص الأخري (خاصة ابنتيها) في الربع الأول المترهل تمامًا من الفيلم، ولكن الجرعة الزائدة المحورية التي لا تصدق هي أن تذهب «فاطمة» إلي طنطا لمصالحة أهلها، وتتعرف عليها أختها، ولكن «فاطمة» هي التي تهرب لأنها لا تستطيع المواجهة، ليس هذا بالتأكيد سلوك امرأة قوية الشخصية ولا أم تحاول انقاذ طفلها من الموت التي لا تفكر بعقلها ولكن بعواطفها، ولم يكن من المعقول أبدًا أن تترك طنطا لتعمل شحاذة في القاهرة، كان الهدف تأزيم الموقف وتكثيف معاناتها، وكانت الوسيلة السهلة هي أن تزيد الجرعة بطريقة لا تتسق مع رسم الشخصية، وحتي بعد الوصول إلي القاهرة وجمع المال، بدا واضحًا جدًا أن الفيلم انتهي تقريبًا مع وفاة الابن رغم احتراف الأم للشحاذة، ولكن المؤلف يريد استمرار المعاناة، فأصبحت الأم تشحذ لكي تقوم بتجهيز ابنتيها بما يليق بعريس أفضل، ثم تصبح المشكلة أنها تريد أن تخفي عن الحارة عملها كشحاذة، بل وتحاول أن تكسر أعين جيرانها بالمال حتي لا ينتقدها أحد عند معرفة الحقيقة، وهكذا تلاحظون أن الجرعة الزائدة الأولي قادتنا إلي جرعات إضافية أضعفت الحكاية بأكملها خاصة أن «فاطمة» سترفض عريس ابنتها البسيط، وهو أمر لا يمكن تصوره في طبقة تسبق فيها فكرة «الستر» فكرة «أموال العريس»، في هذه النقطة تحديدًا يتشابه موقف الأم الغريب مع موقف الأب الأغرب من عريس ابنته في فيلم «الساحر» ولو أن هؤلاء الفقراء يُفكرون كما يفكر المؤلفون لما تزوجت البنات أبدًا! البائسة المسحوفة لقد تورط المؤلف تدريجيا في أمر خطير: «فاطمة» التي تصارع الفقر أصبحت في مصارعة مفتعلة ولا منطقية مع حارتها ومع ابنتيها، وهذه جرعة إضافية: الابنتان تدخلان في علاقة مع شابين، وجرعة إضافية زائدة: «فاطمة» تخشي معرفة جيرانها بكونها شحاذة مع أنهم جميعًا يمارسون الشحاذة بطريقة غير مباشرة! كان السيناريو في حاجة إلي احتراف تقني ينتقد الفكرة، ويحقق التوازن في عرض الشخوص، ويضبط الموقف من فكرة الهروب من الجارة، ويجعل سلوك الشخصيات متسقًا مع ما نعرفه عنها، ولكن ذلك لم يحدث ابدأ فأصبحنا لا نعرف هل نتعاطف مع «سالم» لأنه غير راضي أم تتعاطف مع حسين لأنه راضي؟ هل نتعاطف مع «فاطمة» لأنها تقاتل من أجل إنقاذ أسرتها أم نكرهها لأنها دمرت حياة ابنتيها؟ بل ما الذي يضيف أصلاً أن تموت هذه البائسة المسحوقة في نهاية الفيلم؟ كيف لم ينتبه صناع الفيلم إلي المفارقة بأن حرب هؤلاء الناس ضد الفقر؟ وليس ضد بعضهم، وكيف لم يشعروا بأن «فاطمة» حاربت فقرها ثم جارتها ثم ابنتيها؟ وما الذي يمكن أن تفعله البنتان الهاربتان في نهاية الفيلم وأمامهما البحر الواسع العريض؟ هل ستحققان حياة أفضل مع أنهما باعا جسديهما لأول شابين في أول اختبار حقيقي دون الأم؟ كلها أسئلة معلقة في الفراغ تؤكد ما نعرفه جميعًا من أن السيناريو بناء متماسك، إذا بدأت بشكل صحيح ستصل إلي نهاية صحيحة، أما إذا بدأت بجرعات زائدة فإنك ستتورط حتمًا في جرعات أكثر. مشكلات الشوق هذه هي مشكلات الشوق التي أراها جوهرية وموثرة، ولكن ذلك لا ينبغي أن يجعلنا نتجاهل المجهود الضخم المبذول ولا العناصر الغنية شديدة التميز، التشخيص والأداء الاستثنائي للرائعة سوسن بدر، في أفضل أدوارها السينمائية علي الاطلاق، لقد توحدت تمامًا مع شخصية «فاطمة» واستخدمت ببراعة كل أدوات الممثل: الصوت والحركة والتعبير، بالعينين مع حضور طاغٍ جعلها حاضرة في أذهاننا حتي في المشاهد التي لا تظهر فيها، «سيد رجب» في دور لا ينسي صعوبته في أنه تجسيد متحرك لفكرة العجز، الحقيقة أنه مشخصاتي متميز جدًا ولم يكن يعيبه أبدًا أن يشاركه في الكتابة في ضبط السيناريو كاتب أكثر احترافًا، بالتأكيد هو يعرف المكان وهذه الشخصيات ولديه مخزون من التفاصيل ولكن ذلك لا يكفي لصناعة بناء متماسك، «روبي» وشقيقتها الوجه الجديد «ميرهان»، اختلت منهما بعض المشاهد الهامة خاصة في المواجهة الأخيرة مع الأم، «أحمد عزمي»، و«محمد رمضان» كانا أيضًا أقل بريقًا واقناعًا لأسباب تتعلق بالطريقة التي رسمت بها الشخصيات المدهشة «منحة زيتون» في دور لافت ومؤثر جدًا، إنها «تحية» المرأة البدنية الجالسة طوال الوقت، والتي تركها ابنها ثم وجدت نفسها في مساعدة البائسة «فاطمة» والتعاطف معها، أعتقد أن هذا الدور يرشح هذه الممثلة المجتهدة والموهوبة والتي شاهدناها في أدوار صغيرة كثيرة، للمنافسة بقوة علي لقب أفضل ممثلة مساعدة، «يوسف إسماعيل» كان أيضًا جيدًا في دور «أبوسالم»، وأظن أنه يقترب كثيرًا من تطويع خبرته المسرحية في أداء أدوار سينمائية تتسم بالاقتصاد في المشاعر والاتصالات. مغامرة مختلفة لا ينبغي أيضًا أن نتجاهل بعض العناصر التقنية والفنية الرفيعة، موسيقي «هشام جبر» التي صنعت معادلاً سمعيا مليئًا بالشجن للمأساة التي نشاهدها، الصورة التي حققها نستور كلفو التي خلقت شعورا طاغيا بالوحشة والكآبة، مساحات اللون الأسود التي تحتل أجزاء كبيرة من الصورة كما في مشهد لقاء الفتاتين بالشابين، وضع الوجوه بأكلمها خارج النور، كما في معظم مشاهد «سيد رجب» وبعض مشاهد «سوسن بدر»، القدرة علي نقل شخصية المكان الحقيقي ودمجه بسلاسة مع ديكورات قليلة، فكرة وضع بعض المقاطع الغنائية علي شريط الصوت في بعض المشاهد لا بأس بها ولكن الظلمات كانت تتحدث عن البحر فيما كانت «فاطمة» أمام النيل! حتي ماكياج الشخصيات وخاصة «فاطمة» كان مقنعًا للغاية، ولكن ظلت المشكلة الواضحة في أن «خالد الحجر» لم يشأ أن ينقذ الفيلم من الترهل، كان الأمر في حاجة إلي حذف ما لا يقل عن 40 دقيقة امتلأ معظمها، بالصراخ والعويل والضرب ومشاهد التسول في الشوارع بصورة متكررة ومملة، المخرج مسئول أيضًا عن إفلات بعض المشاهد من ممثليه خاصة في حالة «روبي» و«ميرهان»، ولكن يذكر ل«خالد الحجر» أن كل فيلم جديد يخرجه هو مغامرة مختلفة تمامًا عن أفلامه السابقة، بل أن الشوق - رغم مشاكله - هو أفضل أفلامه بصريا حتي الآن، ولا شك بأن اجتهاده - حتي مع الاخفاق - يستاهل الاحترام والتقدير.