لا أدري من الذي يجب أن أشكره في الإذاعة علي هذا التسجيل النادر والبديع الذي جاء في موعده وعلي غير موعد، ليفتح لي ولكل من كان سهرانا منذ أيام يقلب موجات الراديو ويتوقف عند موجة إذاعة الأغاني ليحظي بأغنيات الزمن الجميل. فإذا به أي هذا السهران يحظي بكلمة شجية العبارة، جميلة وقوية المعني ورائعة الإيقاع لغويا ومن صوت لا يغيب عن الذاكرة هو صوت طه حسين.. كنت أسعي للغناء فسمعت غناء من نوع آخر، وفي نفس المكان والزمن فقد دأبت الإذاعة المذكورة علي بث حفل غنائي مختلف يوميا من الأرشيف العامر للإذاعة المصرية، وبإحساس ووعي حضاري عميق، يبث الحفل كما هو بدون قطع أو تشويه يخص التاريخ والمناسبة التي أقيم خلالها. وهكذا نفذ إلينا عام 2010 صوت العميد طه حسين يفتتح حفلاً غنائيا ساهرا أقيم علي مسرح الجمهورية في أحد أيام شهر مارس عام 1955 وأقامته جريدة الجمهورية «جريدة الثورة وقتها» لأجل دعم طلبة الجامعات المحتاجين لمصاريف تعليمهم.. لم أصدق سمعي ولكنه صوت طه حسين الذي سمعته مراراً علي فترات مبكرة في حياتي ورأيته في الحلقة الشهيرة من البرنامج التليفزيوني «نجمك المفضل» وحوله كل نجوم الفكر والأدب في مصر ثم المسلسل الرائع عن حياته «الأيام» وفيلم «قاهر الظلام» إنه نجم مفضل وكبير يحلق دائما حين نفتقد النجوم أحيانا من هنا فاجأني وهو يفتتح الحفل بكلمة بدأها بشكر الرئيس الذي كان حاضرا للحفل. لم يذكر طه حسين اسمه، ولكنه كان جمال عبدالناصر فهذا زمنه لكن خطيباً آخر في الحفل ذكر اسم الرئيس بعد ذلك وللحقيقة فلم يكن خطيبا، لأنه لا أحد يجرؤ علي الخطابة بعد طه حسين، ولهذا لم يشعر عبدالحليم حافظ بالحرج قبل بداية غنائه في الحفل في أن يخاطب جمهور الحضور (هل تأثر عبدالحليم وقتها بهذا التقليد الجديد في الحفلات الغنائية التي أقيمت بعد الثورة «أي أن تكون الخطابة من ضمنها.. أم أنه لقربه من صناع القرار.. أصبح ضمن هذا الأسلوب) المهم أن عبدالحليم قال «لما استدعانا السيد صلاح سالم رئيس تحرير الجمهورية علشان يناقشنا في المشروع بتاع الطلبة حسيت وأنا قاعد أني طالب فعلا، وعاجز عن دفع المصروفات ولقيت نفسي بفكر أقدم القصة دي بفني دلوقتي حاقدم لكم الغنوة اللي كتبها الشاعر مرسي جميل عزيز ولحنها الزميل كمال الطويل» وتلا عبدالحليم نص كلماتها. . ذات ليلة.. أنا والأوراق والأقلام كنا في عناق، والنهايات السعيدة لم تكن عني بعيدة إلي أن يصل لوصف حال هذا الطالب الذي وجد نفسه هو وأسرته لايملكون شيئا حتي الكهرباء قطعت وأمه لا تملك إلا الدعوات وتمضي الأغنية لتصور كيف دقت الباب قلوب طيبة طلبت منه أن ينهض ليمحو من لياليه الحزن فالعلم في انتظاره والوطن كذلك.. وتنتهي الأغنية ببيت حماسي يعطي للرئيس الفضل كله في هذا .. قلت من أين أتي هذا الشعاع.. إنه حب جمال.. إنه قلب جمال».. لكن خطبة طه حسن تعيد للحقيقة رونقها وتعطي لكل ذي حق حقه ولهذا فضلت أن أتشارك مع القراء فيها ليس من أجل متعة العقل والاستمتاع بالصياغة وإنما للمقارنة وإدراك المزيد من حالة معاصرة يعيشها من خلال حالة زمن ماضي، الموضوع هو الطلبة الفقراء، لكن الفقر لم يعد هذا الغول ذا الوجه الواحد الآن.. فماذا قال طه حسين الذي كان وقتها رئيساً للجامعة. «سيدي الرئيس أرجو أن تتقبل وتأذن لي بأن أهدي إليك باسم الجمهورية عمالها ومحرريها بأخلص التهاني بما تفضلتم به من رعاية لهذا الحفل، ومن مشاركتك وتشريفك له، ولتأذن لي بأن أهدي إليك شكراً آخر أقدمه إلي سيادتكم باسم الجامعة كلها وباسم طلابها كلهم، سواء منهم ممن أغناهم الله عن المعونة، أو ممن اضطرته ظروفه لطلب المعونة، فالحياة الجامعية تفرض علي الجميع أن يكونوا متضامنين في المودة والمعرفة، وفي احتمال ما يلم ببعضهم البعض من أذي وخطوب وهم جميعا يهدون لمن يطوق قطوفهم كل الشكر وأخلصه لأن ما يمس واحدا من الأذي يوذيهم ومن الخير يرضيهم». «سيدي الرئيس إن هذا المشروع الذي عنيت به الجمهورية إنما هو عمل دعت إليه الحاجة الملحة أشد الإلحاح لطالب بإحدي الكليات والذي لم يجد من يتحدث إليه إلا الصحيفة وقد أحس به المسئولون فيها فجدوا السعي إلي من يحتاج المعونة وعرفت أنت هذا الأمر فكنت أسرع الناس إلي المشاركة حتي أسرع الأخيار للاقتداء بك فأعانوا «الجمهورية» حتي أتيح لها بفعل هذه المعونة وبفعل عناية كبري من قلب كبير كريم للسيد وزير التربية والتعليم ويفعل هذا ياسيادة الرئيس أتباع للقائمين علي المشروع أن يعينوا 600 طالب من الذين كانوا يحتاجون للمعونة علي طلب العلم. وهذه ليست شيئا يذكر بالنسبة للكثيرين الذين ينتظرونها والذين يجب أن تصل إليهم وأؤكد للسيد الرئيس أن الفقراء كثيرون وأن لهم حقوقا علي الناس جميعا وعلي المقتدرين تحديدا فهذا حق لهم والذين يقدمون إليهم هذا الحق لا يحسنون إليهم ولا يقدمون معروفاً وإنما يقدمون حقا ويحسنون إلي أنفسهم وواجب القادرين جميعا أن يبذلوا ما أوتوا من الجهد لمعونة طلاب العلم لأنهم يعينون الشعب كله، لأن هؤلاء سيصبحون بعد تخرجهم خداماً للشعب وخداما لهؤلاء الذين أعانوهم علي بلوغ غايتهم. سيدي الرئيس حين علمتم بهذا المشروع ووافقت علي الاشتراك فيه سننت سنة حسنة، فأنعم ياسيدي الرئيس بهذا الفضل وأرجوا أن تنعم قبل كل شيء بالشعور بأن المواطنين يرون ما تفعل، ويسمعون بما تستجيب وأنا بعد ذلك ياسيدي الرئيس أرجو أن تتقبل مني ومن الجمهورية ومن الجامعة شكرا مجددا أما بالنسبة للطلاب فأني أطالبهم بالإخلاص في طلب العلم، والاخلاص في خدمة الوطن. فقد انتهي العصر الذي كانوا يذكرون فيه الحقوق فقط وليس الواجبات وواجب الطلاب الإخلاص للعلم وهم طلبوا أن يخلصوا للوطن في طلبهم العلم، وأن يخلصوا للوطن في استخدام هذا العلم، وويل لأمة يصد فيها الناس عن طلب العلم لا لشيء إلا لأنهم فقراء».. انتهت كلمات طه حسين والتي شغلتني طويلا عن متابعة فقرات الحفل، سرحت في تأكيده علي حقوق الفقراء وعلي طلب العلم، حتي جاءت فقرة عبدالحليم فردت كلماته العافية إلي الذاكرة، تأمل جديد حول الغناء للثورة، ووددت لو لم يقبلها فغناؤه أفضل كثيرا.. ولكنه لم يدرك هذا أبداً.