في لقاء ببرنامج «بلدنا بالمصري» استضاف الأستاذ إبراهيم عيسي الأستاذ أحمد الجمال الذي تحدث بإسهاب عن بعض جوانب تجارب التنظيمات الناصرية.. وقد اكتشفت أن عدداً كبيراً من المشاهدين لم يعرف من قبل شيئا عن بعض ما ذكره الأستاذ أحمد الجمال، خاصة ما يتعلق بتنظيم «الطليعة العربية» وبغض النظر عن المواقف المختلفة من «التنظيم الطليعي» الذي مارس نشاطه داخل مصر أو علي امتداد الوطن العربي، والذي يحلو للبعض أن يطلق عليه تسمية «التنظيم السري» لأنه بالفعل كان سرياً أو هكذا كان المفروض أن يكون، بغض النظر عن الموقف من هذا التنظيم فإنني أعتقد أن الوقت حان ليدلي كل من كانت له علاقة بهذا التنظيم بشهادته متي يستطيع من يتصدي لكتابة التاريخ أن يجد بين يديه مادة وفيرة تمكنه من كتابة تاريخ هذه الفترة بدقة. وقد كنت ممن شاركوا في هذا التنظيم بفرعيه، المصري والعربي.. وأتصور أن تجربتي مع «التنظيم العربي» يمكن أن تخدم بعض التفاصيل الإضافية للصورة التي رسمها الأستاذ أحمد الجمال، ولهذا رأيت أن أسجل هذه الشهادة عن الجانب الذي شاركت فيه - مشاركة لم يكتب لها أن تكتمل - وهي إطلاق إذاعة معنية بهذا التنظيم، وهي إذاعة «لم تر النور» لظروف هزيمة عام 1967. بدأت القصة باتصال هاتفي من مكتب المرحوم فتحي الديب يطلبني للقاء مهم، وهو يومها المسئول عن الشئون العربية، وذهبت في الموعد المحدد ليستقبلني الأستاذ فتحي الديب بحضور الدكتور يحيي الجمل.. بدأ الرجل حديثا طويلا عن أهمية الإذاعة في التواصل مع الجماهير العربية.. وتطرق الحديث إلي تجربة إذاعة «صوت العرب» وما أحدثته من أثر هائل في تعبئة الجماهير العربية ضد قوي الاستعمار الأجنبي التي كانت تسيطر علي العديد من البلاد العربية، وذكرني الرجل بمساهمتي في بدايات صوت العرب، وكانت «صوت العرب» وثيقة الصلة بالأستاذ فتحي الديب وهي صلة طبيعية باعتباره المسئول في تلك الفترة عن قوي المقاومة العربية في البلاد العربية المحتلة خاصة في شمال أفريقيا. وبعد هذه المقدمة أكد أن جيلاً جديداً من الشباب العربي يحتاج إلي خطاب مختلف عن خطاب التعبئة والحشد الذي عرفت به إذاعة صوت العرب، وأن الرئيس عبد الناصر يري أن نطلق إذاعة جديدة تخاطب هذا الجيل بأسلوب يتناسب مع مرحلة ما بعد التحرير والتي تحتاج إلي مخاطبة العقل وإلي التركيز علي ما يساهم في التنوير والتنمية. واستخدالرجل عبارات اعتبرتها مجاملة رقيقة لتشجيعي علي تحمل مسئولية إطلاق هذه الإذاعة.. وعندما سألته: لماذا لا يتم تطوير بعض برامج صوت العرب لأداء هذه المهمة؟، فهمت منه أن الرئيس عبد الناصر يري أن تستمر صوت العرب في أداء رسالتا التي أدتها بنجاح ملحوظ في مخاطبة الجماهير العربية العريضة بما عرفت به من خطاب تعبوي يعرف كيف يحرك الجماهير العربية بأسلوب عاطفي. وطلب الرجل أن أختار من أشاء لمعاونتي في هذه المهمة علي أن يبقي الأمر سراً حتي علي وزير الإعلام وهو الأستاذ محمد فايق.. وعندما لاحظ دهشتي أخبرني بأن الأستاذ محمد فايق سيتم إبلاغه في الوقت المناسب.. وحدد سيادته فترة زمنية في حدود ثلاثة أشهر لإعداد برامج هذه الإذاعة وتسجيل عدد مناسب منها. قلت للأستاذ فتحي الديب لدي بعض الأسئلة أريد إجابات واضحة عنها حتي أتمكن من أداء المهمة علي النحو الذي أراه مناسبا، وكانت الأسئلة كلها تدور حول «سقف الحرية» المسموح به لهذه الإذاعة، خاصة فيما يتعلق بالأحداث الداخلية في مصر.. والأهم فيما يتعلق بأمور لها صلة مباشرة بالرئيس جمال عبد الناصر. في لقاء ثان أخبرني الأستاذ فتحي الديب أنه ناقش الرئيس عبد الناصر في الأمر وأن الرئيس يري أن تتمتع هذه الإذاعة بأعلي سقف من الحرية في جميع المجالات حتي ما يتعلق منها بنقد الرئيس، وبدأت من فوري في اختيار عدد من الزميلات والزملاء من صوت العرب والبرنامج العام والأخبار. وبدأ فريق العمل في وضع التصور للبرامج التي تحقق الهدف المطلوب، وأمدنا الأستاذ فتحي الديب بفيض من المواد التي تعيننا علي أداء هذه المهمة منها نسخة من جميع الصحف الصادرة في مختلف البلاد العربية، ونشرات استماع الإذاعات خاصة التي تهاجم السياسة المصرية بالإضافة لمعلومات ذات قيمة عن البلاد العربية والقيادات السياسية والشخصيات العامة المؤثرة في هذه البلاد، وأتم الفريق العمل بكفاءة عالية وقمنا بالفعل بتسجيل برامج تغطي مدة الإرسال المقترحة وهي ساعتان يوميا لأسبوع كامل، واخترنا للإذاعة اسم «الطليعة العربية»، ولحنا مميزاً هو المقدمة الموسيقية لأغنية عبد الوهاب «كل أخ عربي أخي»، وتم تسجيل اللحن المميز بتوزيع جديد للموسيقار «أندريا رايدر».. وتم حجز ساعتين علي موجات إذاعة الشرق الأوسط التي تقرر أن يتم البث علي موجاتها، وانتهينا من وضع اللمسات النهائية لإطلاق هذه الإذاعة التي ستكون صوت تنظيم «الطليعة العربية». وهنا أتوقف لتسجيل ملاحظة أراها بالغة الدلالة.. فعند تسجيل بعض البرامج جاءني المرحوم الأستاذ «إسحق حنا» وهو من أنبل وأكفأ محللي الأخبار.. وقال لي بابتسامته المرحة «أنت عاوز تودينا ورا الشمس؟!» وعرفت أن هذا التساؤل كان دافعه أن برنامجاً اسمه «حوار مع مستمع» ورد فيه علي لسان المستمع أن عبد الناصر «طاغية وديكتاتور»، ولما ذكرت للأستاذ إسحق أن عبد الناصر وافق أن تتعامل الإذاعة بحرية وموضوعية وأننا يجب أن نترك الصفات التي تطلقها قوي معارضة كما هي.. علق الأستاذ إسحق بقوله: «دا كلام جميل نظريا، لكنك قلت إن عبد الناصر شخصيا سوف يستمع إلي هذه البرامج.. وعندما يسمع مثل هذا الكلام فإن موقفه سيختلف وسوف نذهب جميعا ورا الشمس»، انتهت ملاحظة الأستاذ إسحق وضحكت وصممت أن أترك البرنامج كما هو، فهذا هو الاختبار الحقيقي لمدي جدية الوعد بأن تكون إذاعة الطليعة العربية متمتعة بحرية حقيقية «مفتاح الثقة الوحيد لأي وسيلة إعلامية هو الحرية». وأرسلت الأشرطة للأستاذ فتحي الديب.. وبدأنا بثاً تجريبياً علي الموجة التي حجزناها.. وجاء الرد يقول إن الرئيس عبد الناصر يثني علي الجهد ويدعمه ويطلب أن نواصل العمل بالنهج نفسه.. وبينما كنا نتأهب لإطلاق إذاعة «الطليعة العربية» في الثالث والعشرين من يوليو عام 1967.. وقعت الهزيمة الكبري في 5 يونيو عام 1967 فتوقف المشروع.. ولم تر إذاعة الطليعة العربية النور.