كنت أقف خلف الصف الأخير في قاعة خوفو بمركز المؤتمرات.. أتابع صحفيًا عملية يقوم بها أيمن نور للترويج لحزب الغد.. وما قال إنه (تنظيمه).. كان اللون البرتقالي في بداية 2005 قد بدأ يكسو دعايات أيمن.. تماهيًا مع ما يتردد عن (الثورة البرتقالية).. وفي ذات الوقت فإنه كان قد اختار هذا المكان لكي يقارن نفسه بالحزب الوطني الذي اعتاد عقد مؤتمراته في نفس القاعة. كانت القاعة عامرة بعدد من أبناء باب الشعرية.. وقد قيل إن هؤلاء هم أعضاء الحزب.. وقد قيل: إن المنظمة المصرية لحقوق الإنسان راقبت انتخابات اختارت أيمن زعيمًا للحزب.. الذي سرعان ما بشر الحاضرين بأنه تلقي طلبات عديدة من مختلف أعضاء الحزب بأن يكون إبراهيم عيسي رئيسًا لتحرير جريدة الغد.. ثم ترك أيمن المنصة.. وعاد إلي الخلف.. حيث كنت أقف.. وسألني: إيه رأيك في حركة إبراهيم عيسي؟ وأجبته بسؤال: ماذا تقصد منها؟ فقال: خلينا نلاعبهم! حتي هذا التوقيت لم تكن جريدة الدستور قد عادت للصدور.. كانت متعثرة في دهاليز المحاكم.. حيث طلب ناشرها عصام فهمي بأن يصدرها بترخيص مصري.. بعد أن توقف تصريح طباعتها القبرصي في عام 1998 .. كان كل من عادل حمودة وإبراهيم عيسي قد تعلق في عنق عصام.. الأول بعد أن ترك «روزاليوسف» وذهب إلي الأهرام كان قد أصدر مع عصام فهمي جريدة صوت الأمة.. وهي كانت ترخيصًا مملوكًا للمحامي عدلي المولد.. وكان الثاني قد قضي وقتًا بلا عمل.. يحاول إصدار صحف قبرصية.. سرعان ما تختفي.. لدرجة أنه لجأ إلي إصدار جريدة اسمها (العائلة) من خلف رئاسة تحرير إحدي الزميلات حتي لا يكون ظاهرًا في الصورة.. إلي أن عادت الدستور بحكم قضائي.. فلم يرأس عيسي جريدة أيمن. في ختام مشهد الست سنوات، تلك التي بدأت في 1992 وانتهت في 1998، في «روزاليوسف»، كان أن ترتب حفل عشاء مثير في مطعم الكبابجي بفندق شيراتون الجزيرة.. كنوع من التكريم لعادل حمودة.. ولقد اقترح هذا الحفل الكاتب الكبير عاصم حنفي ووافق عليه الأستاذ محمود التهامي.. وحضره عدد كبير من الصحفيين في «روزاليوسف» ورئيس التحرير محمود التهامي وبالطبع حمودة.. والفنان حسين فهمي والفنانة يسرا.. وبعد أن بدأ العشاء كان أن وصل الدكتور أسامة الباز.. صبحه الله بالخير.. وكان أن ألقي كلمة أشاد فيها بعادل حمودة.. وركز في جزء كبير من كلمته علي أن الدولة لا تقف ضد «روزاليوسف» وأن مسيرتها مستمرة. كانت مجاملة لطيفة.. لكنها عمليًا أعطت إشارات متضاربة.. الصحيح بالطبع أن الدولة ليست ضد هذه المؤسسة العريقة.. لكن الإشادات علي هذا المستوي كانت لها دلالات غير مفهومة.. وأعتقد أن ما قيل في هذا العشاء كان هو أحد الأسباب التي دعت رئيس التحرير إلي ألا يعيد النظر في مسار المنهج التحريري للمجلة.. وفي ذات الوقت كان نائب رئيس التحرير الأسبق يملأ البلد حديثًا عن أنه يدير المجلة من بيته.. وأن كل من فيها يتصل به.. وأنه يشور عليهم بما يفعلون.. وكان الدليل الذي يسوقه هو أن المجلة كما هي. لم يكن بمقدور أحد أن يستوعب أن في «روزاليوسف» شبابًا قادرين علي أن يعملوا وأن يواصلوا أداءهم المهني.. كما لم يكن بمقدور أحد أن ينتبه إلي أن المكون الجنسي قد انسحب فورًا من الصفحات.. كما أن التعاملات الإنسانية فسرت علي أنها تلقٍ للتعليمات من نائب رئيس التحرير المبعد.. فقد كان بعضنا يزور حمودة.. مرة في مكتبه في الأهرام.. حيث كان يقول إنه موجود في (مقبرة رخام).. ومرة في بيته.. حيث اجتمعنا إحدي المرات.. وكان اجتماعًا له طابع إنساني.. غير أنه تم استغلاله علي نطاق واسع لتأكيد ارتباط المحررين بنائب رئيس التحرير.. كما لو أنه يقود تنظيمًا سريا من مصر الجديدة. كان الأستاذ محمود التهامي حسن النية إلي حد كبير لدرجة أنه كان يقول لي إنه لا يوجد ما يمنع أبدًا من الاتصال بحمودة واستشارته.. وذات مرة تصاعد الخلاف بين الرفاق الشباب.. ودبت الغيرة المهنية والتنافس الصحفي لأن فيهم من رأي أنه الأحق بميراث منصب نائب رئيس التحرير.. وقلت لحمودة في اتصال تليفوني إنه يمكن أن أدعو الزملاء إلي عشاء في بيتي يحضره معنا لكي يهدئ الأجواء بيننا.. لكنه قال: الأفضل أن يكون في بيتي.. وقد كان. اعترف بأن هذا اللقاء كان واحدًا من أمكر الفخاخ التي وقعت فيها في حياتي.. فمن جانب ترسخ الانطباع بأن المجلة تدار من بيت عادل حمودة ولم تكن كذلك.. ومن جانب آخر أدار هو اللقاء بحيث إنه بدلا من أن يهدئ الأجواء أوغر الصدور.. إذ مضي يمتدحني بين زملائي ويشيد بقدراتي.. وبأنني الأقدر علي أن أقوم بالعمل.. وبمنتهي السذاجة فرحت بهذا الكلام الذي أضاف للضغينة نارًا وللفجوات عمقًا رهيبًا. في غضون ذلك كان الكثيرون يسمعون أن حمودة يطرح تساؤلات حول السبب الذي أدي إلي إبعاده وحده.. وأن من الأوجب أن يلقي محمود التهامي من الحب جانبًا.. وأنه كان مسئولاً معه.. وهو كلام يناقض أسطورة أخري سوقها حول أنه كان (الكل في الكل) والآخرون مجرد صور.. ويبدو أنه قد التقط معلومة ما.. فاندفع ليزور الأستاذ التهامي في مكتبه في «روزاليوسف».. حيث جلس أمامه منتشيًا سعيدًا .. وفي خلفية ذهنه معلومة عرفها من الأستاذ إبراهيم نافع رئيس تحرير الأهرام.. وحيث أعطي للتهامي انطباعات بأنه لن يكون الأخير.. وفيما بعد ذلك بيومين كان قد جرت حركة تغييرات صحفية.. أدت إلي خروج محمود التهامي من منصبه. علي الجانب الآخر، كان زميلنا السابق إبراهيم عيسي قد بدأ رحلة تخبط طويلة.. قرر أنه في مواجهة مع الدولة.. وأعتقد أنه يمكن أن يلتف عليها.. لا اعتقد أنه طرح علي نفسه تساؤلات جوهرية حول طبيعة ما سقط فيه.. وأظنه اقتنع بأن رحلة الانتحار لم تكتمل.. وأن عليه أن يخوض المواجهة إلي نهايتها.. ومن ثم وبينما كان يحاول أن يصدر أي صحيفة بأي شكل.. كان أن ألف رواية ضد الرئيس.. تلك التي من عندها تبين أنه لم يكن يتجاسر علي الرموز في تاريخ مصر وزعماء عظام إلا لكي يصل لمرحلة الهجوم الشخصي علي الرئيس. إن الصمت عن تناولات عنيفة لسيرة سعد زغلول.. وعدم التوقف أمام اجتراءات قاسية للزعيم أحمد عرابي.. هي التي قادت في النهاية إلي هجوم شخصي مبتذل علي الرئيس مبارك.. ذلك الأسلوب الذي أصبح نهجًا فيما بعد حين صدرت الدستور بترخيص مصري.. هذا الأمر الذي وصفه الكاتب الكبير غسان الإمام بأنه هيستيريا الاعتقاد بأن الصحفي في عداء شخصي مع الرئيس. ونكمل غدًا. الموقع الالكتروني : www.abkamal.net البريد الالكتروني : [email protected]